السودان في معادلة الأمن الإقليمي: إعادة توصيف الجيش السوداني كمحور اختراق جيوأمني في البحر الأحمر
في خضم التصعيد بين إيران وإسرائيل، تتوسع خريطة المواجهة لتشمل أطرافاً لم تُدرج سابقاً ضمن ميدان الصراع المباشر. السودان، وتحديداً مؤسسته العسكرية الرسمية، يُعاد توصيفه اليوم في خطاب أمني إقليمي كموقع تهديد ناشئ، لا كطرف محايد أو ضحية حرب داخلية. تقرير Jerusalem Post الصادر في مايو 2025 قدّم صيغة صريحة: الجيش السوداني متهمٌ بتسهيل عبور طائرات مسيّرة إيرانية، وتحويل بورتسودان إلى عقدة لوجستية ضمن محور طهران.
هذه القراءة لا تُعبّر عن حدث عارض، بل تمثل نموذجاً كلاسيكياً لما يُعرف في نظريات الأمن الإقليمي بـ”إعادة التصنيف الجيوأمني”، حين تُجرّد مؤسسة نظامية من رمزيتها السيادية وتُعاد صياغتها كفاعل غير رسمي ضمن شبكة تهديد عابر للحدود.
اللافت أن هذا التصنيف يُبنى لغوياً قبل أن يُبنى ميدانياً. الخطاب الإسرائيلي والغربي لا يتحدث عن “الجيش السوداني” كمؤسسة رسمية ذات مرجعية وطنية، بل يوظّف توصيفات تتعمّد تسييغه ككيان بلا مركز، أقرب إلى الوكيل منه إلى الدولة. مفردات مثل “جناح مسلّح”، “معقل للجهاد العالمي”، و”المنصة الجديدة لسيناريو 7 أكتوبر من إفريقيا” ليست مجرد تهييج إعلامي، بل أدوات لإنتاج صورة أمنية جديدة.
وبالتحليل التفكيكي، فإن هذا الخطاب لا يستهدف فقط الجيش، بل يبني “وظيفة رمزية جديدة” للسودان. فالمؤسسة التي كانت رمزاً للوحدة السيادية – بغض النظر عن مواقفها السياسية – يُعاد تعريفها الآن كأداة اختراق جيوأمني، وبالتالي يُعاد موضع السودان برمّته كمنطقة رمادية خارجة عن النظام الإقليمي الرسمي.
مقابل ذلك، لا يصدر عن الجيش السوداني أي خطاب سيادي يعيد ضبط هذه الصورة، ما يُفسّر في منطق الخطاب الأمني على أنه “صمت دالّ”، أي اعتراف ضمني أو تواطؤ سردي. هذا الصمت لا يُضعف فقط مكانة الجيش، بل يورّط الدولة في قبول إعادة توصيفها من الخارج، دون رواية بديلة.
الأهم أن هذا الخطاب يتجاهل فاعلين آخرين. قوات الدعم السريع، مثلاً، لا ترد بتاتاً في سردية التهديد الإسرائيلي. لا توجد إشارات إلى علاقتها بإيران أو بأي نشاط لوجستي عابر للحدود. هذا الغياب ليس تفصيلاً، بل يُشير إلى أن جزءاً من النسيج العسكري السوداني لا يزال خارج إطار التصنيف الأمني الدولي – وهي مساحة يجب البناء عليها لتقديم صورة سيادية مضادة.
وفي خلفية هذا المشهد، يجب أيضاً تفكيك البنية الإقليمية ذاتها. تحالفات البحر الأحمر، مبادرات الأمن البحري، والربط الاستراتيجي بين أفريقيا والشرق الأوسط – كلها بُنيت دون السودان، أو بمشاركة رمزية له. إن الآليات التي تعيد تشكيل الإقليم تُقصي السودان عن قصد أو إهمال، وتُعيد إنتاجه كمساحة لا كفاعل.
بناءاً عليه، لا تكمن خطورة المشهد فقط في الاتهامات، بل في التحوّل غير المعلن لوظيفة السودان: من دولة ذات سيادة إلى عقدة أمنية صامتة. وإذا لم تتم مواجهة هذا التحوّل بخطاب تحصيني متكامل، ستُكرّس هذه الصورة وتُصبح أساساً لممارسات إقصائية أو تدخلية مستقبلاً.
تحت الرماد، لا يشتعل فقط نزاع داخلي أو توتر إقليمي، بل ينمو تدريجياً مشروع لإعادة تعريف السودان، ومن خلاله إعادة رسم خرائط السيادة في الإقليم.
إرسال التعليق