الحركة الإسلامية: من المشروع الدعوي إلى المشروع السياسي

كيف تحوّل خطاب الهداية إلى أداة سلطة وامتيازات؟

مقدمة: بين البريق الدعوي والواقع السياسي

لطالما شكّلت الحركة الإسلامية في السودان صورةً مثالية في أذهان كثيرين، خاصة من رأوا فيها مشروعًا دعويًا يستند إلى القيم الإسلامية وينأى بنفسه عن مطامع السلطة.
لكن تجربة الواقع، وما رافقها من تحوّلات داخلية، كشفت شيئًا فشيئًا عن وجهٍ آخر، قد لا ينسجم مع الخطاب الذي تبنّته الحركة لعقود.

الانتماء الأول: وجدان لا سياسة

لم يكن انتمائي للحركة الإسلامية سياسيًا، بل وجدانيًا وروحيًا. كنت أراها طريقًا للهُدى، وأداة لبعث حضارة إسلامية شاملة، لا تميّز بين الناس على أساس عرق أو منطقة.
برامجها الدعوية مثل “الهجرة إلى الله” كانت تغذّي روحي وتؤكّد لي أننا نسير على الطريق الصحيح.

بداية التحوّل: الشك من داخل التجربة

من داخل الحركة، بدأت الشكوك تتسلل. وحين أعدت النظر خارج الإطار الذي صُنع لي، أدركت أن الواقع بعيد كل البعد عن الخطاب الدعوي الذي آمنت به.
انتهى المشروع بانقلاب داخلي تقوده القبيلة، وباتت الممارسة السياسية تحت لافتة الإسلام لا تمثّل الدعوة، بل السلطة.

من الدعوة إلى الامتيازات العرقية

الحركة التي كنا نؤمن بها كدعوة شاملة، تحوّلت إلى أداة تكرّس الحكم لنخبة اجتماعية محددة.
تُوزّع الامتيازات على أساس عرقي وجهوي، ويُحتكر الحديث باسم الدين، وكأن الإسلام لا يُناسب إلا من وُلد في الشمال أو في الخرطوم.

الصدمة: الداخل ليس كما الخارج

كنت أظن، وبعض الظن إثم، أن كل من ينتقد الحركة هو فاسق أو حاقد. لكنني، خارج حدود التصوّرات المرسومة داخليًا، رأيت الفجوة الكبيرة بين الشعارات والممارسة.
الحديث عن الجهاد والدين، يقابله تحالفات إثنية وامتيازات قبلية لا صلة لها بالدعوة، بل تسعى نحو تثبيت السلطة.

الطبقية الدينية: الإسلام على مقاس النخبة

شاهدت كيف تم تجاهل جوهر الإسلام، وغابت القدوة، ليحلّ مكانها الاستعلاء العرقي والديني.
تحوّل شعار “لا لدنيا قد عملنا” إلى يافطة فوق قصور الأغنياء ومساجد الأثرياء، بينما يعيش الكثير من الناس في أطراف الخرطوم لا يعرفون كيف يقرؤون الفاتحة أو يصلّون.

الأثر المجتمعي: من الإيمان إلى التمرّد

ليست الكارثة فقط في الانحراف السياسي، بل في الأثر المجتمعي لذلك التحوّل.
الانفصام بين الخطاب والممارسة دفع شرائح من المجتمع للعزوف عن الدين، وحتى التمرّد عليه، بوصفه أداة قهر طبقي لا وسيلة خلاص.
انتشر الإلحاد، وتراجعت القيم، لأن الدين لم يُقدَّم كنموذج للرحمة، بل كمشروع نخبوي سلطوي.

خاتمة: إلى أين يتجه المشروع؟

يبقى السؤال الأهم، والذي يطرحه اليوم حتى من هم داخل الحركة الإسلامية:
أين هو المشروع الدعوي الحقيقي؟
هل ما زال قائمًا؟ أم وُئِد يوم تحوّلت الدعوة إلى دولة، والموعظة إلى سلطة، والداعية إلى أمير لا يُسأل؟

ربما لم تكن المشكلة في الفكرة، بل فيمن طبّقها.
وربما آن الأوان لإعادة تعريف الدعوة بوصفها طريقًا إلى الله لا إلى الحكم، وجماعة الدعوة كجسر للتراحم لا كعصبة مرفوضة من الدين

إرسال التعليق