محمد الحبيب يونس : تداعيات السمرة في قصيدة "نافذة لقمر أسمر" للشاعر محمد عبد الباري: دراسة نقدية. - صوت الوحدة

محمد الحبيب يونس : تداعيات السمرة في قصيدة “نافذة لقمر أسمر” للشاعر محمد عبد الباري: دراسة نقدية.

العنوان هو العتبة التي تُفضي إلى النص، ومنه يمكن أن ننظر إلى الداخل. فهو يومِضُ بما تحته ويَشِفُّ عنه. وعنوان القصيدة هنا جملة اسمية حُذِفَ خبرها (“نافذة لقمر أسمر”). فـ”نافذة” خبر لمبتدأ محذوف يمكن أن يُقدَّر بـ(هذه) إشارةً إلى القصيدة، أي أنها نافذة نرى من خلالها القمر الأسمر. أما شبه الجملة ونعته (“لقمر أسمر”) فهو متعلق بالنافذة، أي أن هذه النافذة الشعرية تختص فقط بعرض أو كشف جمال الأسمر، وذلك لأن لام الجر هنا تفيد معنى الملكية. ووصفُه مجازًا للأسمر بالقمر كشف أولًا عن جمال الأسمر، وأشاع ثانيًا مشاعر الفخر والإعجاب به.

المقطع الأول السمرة ذاكرة اللون:

لأنّ اللونَ ذاكرتي
سأتلو
فواتح سُمرتي في كل آنِ
تأرجحَ في حبالِ الشمسِ
وجهي
لينضجَ –
لحظتينِ من الزمانِ
فصارَ يليقُ بالمعنى
وصارت
وجوهُ الباهتينَ بلا معانِ

تكشف هذه الأبيات عن شعور الفخر باللون الأسمر بوصفه هوية ينتمي إليها الشاعر. فالمجاز (“اللون ذاكرتي”) يُحيل إلى امتداد الأسمر عبر التاريخ، وذلك لأن الدال (“ذاكرتي”) خرج من حيزه الدلالي المعروف إلى فضاء جديد يدل على امتداد الأسمر عبر الأزمنة، ويدل على أن هذا اللون هو هويته وتاريخه بكل ما تُبطِنه السمرة من مدلولات العناء والثورة والكفاح. وكذلك خرجت العلامة (“سأتلو فواتح”) من دلالاتها المتصلة بالدين إلى فضاء جديد يتسم بالتغني بالأسمر وسرد بدايات تاريخه. وقد لجأ الشاعر إلى هذا العدول (“سأتلو” و”فواتح”) ليضفي على هذه السمرة صبغة دينية تتمثل في تقديسها، فهذا العدول يُشيع مشاعر التعظيم للسمرة في قلب الشاعر، وموقفه المقدس منها.
يبدأ المقطع في سرد تاريخ اللون الأسمر، ويصف سبب هذه السمرة وهي نضوجها بالشمس، ذلك النضوج الذي يقابله بهوت الهوية المقابلة (“وجوه الباهتين”). و(نضوج وجه الأسمر بالشمس) صورة رمزية تنفتح على أفق دلالي رحب، فهي تُحيل إلى الخبرات التي تعلمتها هذه الهوية من قيم مادية وثقافية وسياسية بسبب تاريخ طويل من المرارة. (فصار يليق بالمعنى وصارت وجوه الباهتين بلا معان) هذا التركيب امتداد لمعنى البيت السابق، إذ إن ظفر الأسمر بمعنى لحياته كان سببه معاناته السابقة كما تدل على ذلك فاء السببية وما يليها من جمل، تلك المعاناة هي ما أكسبه نضوجه ومعنى الحياة الذي يفتقره غيره الذي لم يُعانِ ولم يتلظَّ بالشمس.

المقطع الثاني : التوغل في الأرض والطبيعة.

قديماً
شكّل الكاكاو صوتي
فإن غنيتُ يقطرُ من لساني
من الأبنوسِ لوني
شعّ يوماً
كما شعّ النبيذُ من الدنانِ
وأمي الأرضُ
تشبهني كثيرا
ملامحُها يراها
من يراني

يرمز الكاكاو والأبنوس بشكل أو بآخر إلى اللون الأسمر. ونجد في الصورة (“قديماً شكّل الكاكاو…”) أن الشاعر قد جعل اللون هو ما شكّل لغته، لذلك فإن غناءه وأدبه انعكاس ومرآة لهذا اللون، فاللغة هنا تتماهى مع الهوية بحيث يصبحان شيئًا واحدًا. وجسّد الشاعر مفردات الطبيعة ليصف التصاقه بها وأصالته. فالكاكاو والأبنوس، تلك الشجرة الصلبة، رمزًا إلى هويته وعمق جذورها وصلابتها. فالعلامة المركبة (“من الأبنوس لوني شع يوماً…”) هي عبارة عن صورة رمزية تدل على أصالة الأسمر وعراقة جذوره وصلابته كذلك. ويستمر في تصوير تماهي هوية الأسمر مع الأرض بوصفهما شيئًا واحدًا، كما تشير إلى ذلك الصورة الأيقونية (“وأمي الأرض…”)، فالسمرة هي الأرض، والأرض هي السمرة.

المقطع الثالث: تجليات الهوية عبر التاريخ.

أنا حمأُ البدايةِ
حين هامت
بسمرةِ (آدمٍ) حورُ الجنانِ
أنا
المطرُ المسافرُ في الصبايا
إذا ما هزّ (أنجشةُ) الأغاني
أنا هذي
المآذنُ حينَ تبكي
ولونُ (بلالَ) يولدُ في الأذانِ
أنا الغزلُ الذبيحُ
فكم (سُحيمٍ)
يبيتُ على وساداتِ الغواني
أنا شجرُ النضالِ بكلِ أرضٍ
ففي جنبيّ (مانديلا) يعاني

إن الدال (أنا) خرج من كونه دالًا على المفرد واتسع ليدل على الجماعة، بحيث أصبح دالًا على الهوية السمراء، وهذا التأويل تشير إليه المعطيات النصية مثل أسماء الشخصيات التاريخية التي أُسندت للضمير.
حيث عملت الدوال (آدم، أنجشة، بلال، سحيم، مانديلا) بترسيم مشهد طويل للأسمر يمتد زمنيًا من آدم حتى مانديلا، أي من قبل التاريخ حتى العصر الحديث، وهو مشهد متنوع من حيث الدلالة:

  • إعجاب بجمال السُّمر وإعطاؤها مركزية تتفرع منها الحياة. يصور ذلك البيت (حمأ البداية)، إذ تكشف الصورة (حين هامت بسمرة آدم حور الجنان) عن موقف الشاعر من الأسمر المنطوي على الإعجاب.
  • الاستعباد والصبر والظفر أخيرًا بحيز من الحرية مع الهويات الأخرى. فالرمز (بلال) و(أنجشة) يوحيان بذلك.
  • المعاناة والنضال ومحاربة الاستعباد والجهل والتخلف، وهذا المعنى يشير إليه الرمز (مانديلا).

المقطع الرابع: السمرة والإبداع الفني.

تساءلني المرايا:
كيف لوني
يشابهُ -صدفةً-
لونَ الكمانِ ؟!
وليست صدفةً
لأجيبَ عنها
لأنا في الحقيقةِ توأمانِ !!
كلانا
يتقنُ الوجعَ المغنى
ويصعدُ بالحنانِ إلى الحنانِ!!

يرسم المقطع صورة للأسمر المبدع وتشابهه مع الكمان في السطح/البشرة ليس سوى إشارة تكشف في عمقها عن ذاكرة الإبداع السمراء، ذلك الإبداع الذي يظهر تصريحًا في بيته الأخير (كلانا يتقن الوجع المغنى… ويصعد بالحنان إلى الحنان). فالأسمر يفجر مشاعره كالكمان عن طريق الفن.
استدعاء الشخصيات
وظّف الشاعر عددًا من الشخصيات السوداء للنظر إلى اللون الأسمر أفقيًا، من خلال مكانته في بناء التاريخ، جاعلًا للأسود مركزيةً في التاريخ. لم يخرج (آدم) كدال إلى مدلول مجازي، فهو هنا يُحيل بشكل مباشر إلى أبي البشر. ولهذه الإحالة دورها في بناء مركزية الأسود، إذ جعلته الجذر الذي تفرّع منه البشر. أنجشة وبلال ومانديلا وسحيم: وظّف الشاعر هذه الشخصيات وفجّر طاقاتها الدلالية داخل النص لتحريك المعنى العام للنص ودفعه لآفاق جديدة. وقد خرجت هذه الشخصيات عن دلالاتها الأصلية بوصفها شخصيات تاريخية، لتدل على تجربة شعورية لا يمكن اختزالها في الفرد، حيث أصبحت الشخصية هنا دالًا حرًا يجسد تجربة جماعية للسمر. فهذه الشخصيات جسّدت معاني محاربة العبودية والكفاح من أجل القناعات، والثورة بمعناها المادي والثقافي والسياسي. فبلال يُعتبر ثائرًا ضد العادات الجاهلية وضد العبودية، وهو نفس الحال لدى مانديلا.

إرسال التعليق

لقد فاتك