الحُكم بالحرب : ارتداد النخب و بنية الدولة العميقة في السودان

يُعدّ السودان من أفقر دول العالم وأكثرها هشاشةً سياسية، وهي هشاشة لم تنشأ فقط من ظروف اقتصادية أو ضعف مؤسسي، بل من تاريخ طويل من الحروب والصراعات، ومن النخب الحاكمة التي أدارت الدولة كما تُدار شبكة مصالح ريعية.
في هذا السياق، تصبح الثورة الشعبية، مثل ثورة ديسمبر، لحظة استثنائية من الوعي والانفجار. لكنها، في غياب مشروع فكري وسياسي قادر على تفكيك بنية الدولة القديمة، كثيرًا ما تُختطف أو تُجهض.
ما شهدناه بعد الثورة السودانية لم يكن مجرد خيانة سياسية عابرة، بل ارتدادًا عميقًا عن القيم والمبادئ التي دفعت الشعب إلى الشارع. والأخطر من ذلك أن هذا الارتداد جاء من بعض مَن كانوا في طليعة الخطاب الثوري والمطالبين بالتغيير.

لفهم هذا الارتداد، لا يكفي أن نتحدث عن الجهل أو الخوف أو الانتهازية. نحن بحاجة إلى أدوات تحليلية تنفذ إلى البنية السياسية العميقة التي تنتج مثل هذه الظواهر. وهنا تبرز مساهمة الباحث والمفكر السياسي أليكس دي وال، بوصفه أحد أهم مَن درسوا ما يمكن تسميته بـ “منطق الحكم بالحرب” في القرن الأفريقي، وخاصة في السودان.
في كتابه السياسة الحقيقية للقرن الأفريقي: المال، الحرب، وأعمال السلطة، يقدّم دي وال إطارًا نظريًا عميقًا لفهم الدولة السودانية، لا ككيان قانوني حديث، بل كمنصة تُدار فيها السلطة عبر شبكات ريعية تعتمد على الحرب والعنف المسلح كوسائل تنظيمية، لا كحالات استثنائية.

بحسب تحليل دي وال، فإن النخبة الحاكمة في السودان لم تكن تسعى إلى بناء دولة وطنية مؤسسية، بل إلى السيطرة على موارد محدودة عبر أدوات غير مؤسسية: الميليشيات، التحالفات القبلية، الأسواق السوداء، والولاء الشخصي.
الحرب، في هذا النموذج، ليست فشلًا في الحُكم، بل شكل من أشكال الحُكم. هي وسيلة لإعادة ترتيب التحالفات، لإسكات الخصوم، ولتوزيع المنافع. ولذلك، فإن هذه الحرب لا تنتهي، بل يُعاد تدويرها بحسب مصلحة مَن في السلطة.

في هذا السياق، يصبح موقف النخبة من الحرب ليس مسألة مبدئية، بل موقعًا في شبكة المصالح.
كثير من النخب التي وقفت ضد الحرب، أو رفعت شعار “السلام أولًا”، لم تكن تمتلك أدوات الاستقلال عن هذه الشبكة. وعندما تغيّر ميزان القوى، أو سقطت مدنهم، وبدأ الدعم هو مَن يفرض السيطرة، تغيّر خطابهم وانخرطوا في تبرير الحرب بلغة وطنية زائفة.
إن ما يدعوه دي وال بـ “الحكم عبر السوق السياسي” يجعل من كل موقف سياسي قابلًا للبيع أو المساومة، لأن الدولة نفسها لا تُدار عبر القانون والمؤسسات، بل عبر التفاوض العنيف على الموارد.
وهذا يفسّر لماذا نجد مثقفين وناشطين سابقين في الثورة يدافعون اليوم عن الجيش، بل ويبرّرون جرائم ضد المدنيين، بحجج تتراوح بين “حماية الدولة”، و”إنهاء التمرد”، و”استعادة السيادة”.

لقد كشفت الحرب الأخيرة أن بعض النخب السياسية والثقافية في السودان ليست حاملةً لمشروع بديل، بل كانت تعارض النظام السابق فقط لأنها لم تكن جزءًا منه.
وحين أُتيحت لها الفرصة لتكون جزءًا من منظومة السلطة، انخرطت فيها دون تردّد.
ومما يُعمّق من خطورة هذه الظاهرة أن هذه النخب باتت تمثّل واجهة خطابية تُعطي شرعية أخلاقية وثقافية للعنف السلطوي، وتُلبسه لبوس الوطنية أو السيادة، وتُعيد إنتاج ثنائية “المركز مقابل الهامش”، و”المواطن مقابل المتمرد”، وهي نفس الثنائية التي بُنيت عليها الدولة السودانية منذ نشأتها.

النتيجة المباشرة لهذا النمط من الحُكم، كما يُشير دي وال، ليست فقط الحروب المستمرة، بل انهيار كامل في منظومة الثقة المجتمعية، وانحلال في فكرة الدولة كمؤسسة جامعة.
في مثل هذا السياق، يتحوّل الهامش إلى مساحة مباحة للعنف، ويُعاد تعريف “المواطنة” لتُقصي مجموعات كاملة بناءً على العرق أو الجغرافيا أو الولاء السياسي.
وهو ما نراه اليوم في الدعوات العلنية لإبادة سكان دارفور وكردفان، أو تبرير قصف المدن، واستخدام السلاح الكيميائي، والقتل الجماعي تحت شعار “حرب الكرامة”.

من هنا، فإن مشروع تيار الوحدة الوطنية لا ينطلق فقط من معارضة الحرب، بل من نقد جذري لبنية الحكم السودانية، كما وصفها دي وال.
نحن لا نؤمن بأن السلام يتحقّق فقط بوقف إطلاق النار، بل بإعادة تأسيس الدولة نفسها على أساس جديد:
دولة لا تُدار بالحرب، ولا تستند إلى الريع، ولا تُقسّم الناس حسب العرق أو الولاء.
نحن نطرح مشروعًا سياسيًا وأخلاقيًا بديلًا، يُعيد تعريف الوطنية على أساس العدالة والمواطنة المتساوية، لا على أساس السلاح والخطاب التعبوي.

الوعي بهذه البنية، وفهم منطق “الحُكم بالحرب”، كما شرحه أليكس دي وال، هو الخطوة الأولى نحو التغيير الحقيقي.
إنه يكشف لنا أن لا خلاص في تسويات شكلية، أو حكومات محاصصة، أو عودة إلى ما قبل الحرب.
التغيير الحقيقي يبدأ من بناء وعي نقدي بالكيفية التي تشتغل بها السلطة، ومن رفض المشاركة في شبكات العنف، حتى وإن حملت لافتات وطنية.

لذلك، فإننا نؤمن أن مسؤوليتنا التاريخية، كمثقفين وناشطين وحركات سياسية، ليست فقط في إسقاط الدولة الغُولة، بل في كشف بنيتها العنيفة، والاشتغال على تفكيكها، وبناء ما يقابلها من مؤسسات وخطابات قائمة على الشفافية، والمساواة، والكرامة الإنسانية.

إرسال التعليق