عزيز الدودو يكتب : استقلال السودان: تحرير لم يكتمل، وميراث من التعقيد
استقلال السودان: تحرير لم يكتمل، وميراث من التعقيد
عندما نتأمل تاريخ الدول التي ناضلت ضد الاستعمار، غالبًا ما ترتسم في أذهاننا صورٌ لثورات مسلحة ومقاومة باسلة أجبرت المحتل على الرحيل. لكن قصة السودان تحمل في طياتها تعقيدًا مختلفًا؛ فاستقلاله لم يكن تتويجًا لحرب تحرير شاملة، بل جاء عبر انسحاب بريطاني “سلمي” سلّم فيه مقاليد السلطة لمن كانوا أقرب إليهم، مما ألقى بظلال كثيفة على مفاهيم الوطنية والولاء.
لم يكن السودان غريبًا على الاستعمار قبل الحقبة البريطانية. فقد خضع لحكم تركي مصري، انتهت سيطرته على يد الثورة المهدية بقيادة المهدي وخليفته عبد الله التعايشي. كانت تلك فترة مجد للمقاومة المحلية، أظهر فيها السودانيون قدرتهم على طرد المحتل. لكن هذا النصر لم يدم طويلًا. فقد عاد البريطانيون بقوة ساحقة، وقضوا على الثورة المهدية في معارك دامية، أبرزها معركة أم دبيكرات، التي مثلت نهاية المقاومة المنظمة وتثبيتًا للهيمنة البريطانية.
على عكس ما قد يُتوقع من قوة استعمارية، لم يواجه البريطانيون مقاومة تذكر عند مغادرتهم. لم تحدث حرب تحرير واضحة تجبرهم على الانسحاب. وبدلًا من ذلك، قاموا بتسليم السلطة إلى الفئات التي تعاونت معهم خلال فترة الاستعمار، ليصبح هؤلاء هم الحكام الجدد. هذا السيناريو خلق إشكالية كبيرة في التمييز بين الوطني الحقيقي ومن خدم مصالح المستعمر، خاصة وأن وكلاء الاستعمار تبنوا سرديته وتماهوا معه.
لقد كان الاستعمار البريطاني قمعيًا ووحشيًا، خاصة مع مكونات غرب السودان، معقل الثورة المهدية. ففي معركة كرري، على سبيل المثال، ارتكبوا مجزرة مروعة راح ضحيتها آلاف الثوار. وفي المقابل، دعمت بريطانيا بعض القبائل الموالية لها، وسهلت وصولها إلى السلطة بعد رحيلها. هذا التمييز في المعاملة فاقم من التعقيدات بعد الاستقلال.
حتى مشكلة جنوب السودان، التي تفجرت مع تمرد حامية توريت عام 1956، كانت جذورها تمتد إلى هذه الفترة المعقدة. فبعد رحيل البريطانيين، عادت بعض الممارسات القديمة مثل تجارة الرقيق، حيث قامت مجموعات شمالية باختطاف أبناء الجنوب وبيعهم في أسواق النخاسة. كان هذا أحد الأسباب الرئيسية لتمرد الجنوبيين، الذين شعروا أن الاستعمار البريطاني، رغم قسوته، كان يحميهم من هذه الجرائم.
لقد ترك هذا التاريخ المعقد السودان في حالة من الانقسام والغموض. فبدلًا من أن يكون الاستقلال لحظة للوحدة الوطنية، تحول إلى صراع على الهوية والسلطة. وحتى اليوم، ما زال السودان يعاني من آثار هذا الإرث الاستعماري، حيث يصعب التمييز بين من ضحى من أجل الوطن ومن خانوه.
الدرس الأهم هنا هو أن الاستعمار لا يغادر ببراءة وعفوية. دائماً يترك وراءه منظومة حكم تخدم مصالحه حتى بعد رحيله. ولذلك، من الضروري إعادة قراءة تاريخ السودان بوعي نقدي، لفهم كيف تشكلت الدولة، وكيف يمكن تصحيح المسار نحو مستقبل أفضل يسوده الوضوح والشفافية والعدالة. فهل سيتمكن السودان من تجاوز هذا الإرث المعقد وبناء سردية وطنية تعيد صياغة الهوية والتوجه القومي للشعب السوداني؟
إرسال التعليق