سارة السعيد تكتب :الجيش السوداني والاقتصاد الموازي: تفكيك آليات الفساد المؤسسي في ظل الحرب
في ظل اشتداد الحرب الأهلية وتمزق مؤسسات الدولة، يطل الاقتصاد السوداني من بين الركام كصورة معكوسة لانهيار السيادة. لم يعد الانهيار مجرد تعبير عن غياب التنظيم، بل هو منظومة كاملة تحولت فيها أجهزة الدولة – وعلى رأسها الجيش – من أدوات ضبط إلى آليات لإنتاج الفوضى المقننة.
الجيش، بوصفه السلطة الرسمية المتبقية، يمارس دورًا مركزياً في إعادة تشكيل الاقتصاد السوداني ضمن منطق الحرب. عبر السيطرة على الموانئ، وخطوط الوقود، وبعض المعابر الحدودية، أعاد إنتاج شبكات توزيع غير رسمية، تدّعي حماية الموارد لكنها في الواقع تمأسس اقتصاداً موازناً تتدفق من خلاله السلع والعملات خارج الإطار الرقابي. هذه الشبكات تقدم نفسها كإجراءات استثنائية، بينما تحوّل عوائدها إلى مصدر مستقل للسلطة والثروة.
ما يُعرض كإجراءات لحماية الدولة هو في جوهره ترسيخ لمعادلة سيادية جديدة: الدولة تتقلص كإطار قانوني وتتوسع كغطاء لمصالح عسكرية واقتصادية غير خاضعة للمساءلة. يدير الجيش هذه الشبكات بمعزل عن السياسات الاقتصادية الوطنية، ويُبقي على السوق السوداء كأداة للتمويل وتحييد خصومه السياسيين عبر التحكم في السلع والتدفقات النقدية.
الأسوأ أن هذا النظام لا يواجه فقط خصوماً في الميدان، بل يواجه أيضاً أي إمكانية مستقبلية لإعادة بناء الدولة. فكل يوم يتم فيه تسييل الذهب خارج النظام المصرفي، وكل صفقة وقود تُدار بعيدًا عن وزارة المالية، يترسخ نظام موازٍ لا يهدد الاقتصاد فحسب، بل يعيد تعريف من يمتلك الحق في توزيع الثروة والسلطة.
إن ما نراه اليوم ليس فقط اقتصاداً ينهار، بل جيشاً يصنع اقتصاداً بديلاً يضعف أسس الدولة التي يدّعي حمايتها. لا يمكن فهم هذه الظاهرة إلا في ضوء التواطؤ العميق بين العسكرة والاقتصاد الموازي: علاقة تبادلية يعاد فيها إنتاج الحرب كحالة دائمة، لا كأزمة عابرة.
في عمق هذه المعضلة يكمن سؤال الدولة: هل يمكن بناء نظام مدني في ظل جيش يستثمر في الانهيار؟ وهل يمكن الحديث عن إعادة إعمار في وقت تتحول فيه المؤسسات الرسمية إلى قنوات غير رسمية للتمويل والسيطرة؟ ما لم يُفكك هذا التواطؤ البنيوي، فإن أي حديث عن تسوية سيكون مجرد طلاء هش فوق جدران متهالكة.
تحت الرماد: إن المساءلة الحقيقية تبدأ من إعادة تعريف من يملك الموارد، ومن يحدد السياسات، ومن يحق له أن يدير اقتصاداً باسم دولة لم تعد تُدير شيئاً.
إرسال التعليق