الاستعمار وصناعة الحاضنة الاجتماعية: قصة الدولة التي وُلدت بالتمييز - صوت الوحدة

الاستعمار وصناعة الحاضنة الاجتماعية: قصة الدولة التي وُلدت بالتمييز

في عام 1928، تقدّم الشيخ خلف، أحد زعماء جبال النوبة، بطلب رسمي لشراء قطعة أرض زراعية لتأسيس مشروع تعاوني لأبناء مجتمعه. إلا أن سلطات الإدارة البريطانية رفضت طلبه بصرامة، بحجة أن منطقته مصنّفة “منطقة مقفولة”.

من النادر أن يُروى تاريخ السودان الحديث من زاوية البنية الاجتماعية التي أنجبت الدولة نفسها. فعادةً ما يُرجع فشل الدولة السودانية إلى فساد الحكومات أو ضعف الكفاءة الإدارية أو الإخفاقات السياسية بعد الاستقلال. لكن حين نعود إلى لحظة التأسيس الأولى، نكتشف أن الخلل كان بنيويًا منذ البداية، وأن النواة التي خرجت منها الدولة لم تكن نتاج حركة وطنية جامعة، بل صِيغت في رحم الاستعمار بأدوات محلية وتحالفات نخبوية.

النخبة التي طلبت الاستعمار

بعكس ما تُروّجه السرديات القومية التي تُقدّس الاستقلال وتُصوّره كثمرة نضال شعبي شامل، فإن السجلات التاريخية تُخبرنا أن النخبة القبلية والدينية في شمال ووسط السودان كانت من أوائل من طلبوا عودة الحكم الأجنبي بعد انهيار الدولة المهدية. بالنسبة لهؤلاء، لم يكن الاستعمار كارثة، بل فرصة لاستعادة مواقعهم وامتيازاتهم التي ضيّعتها عليهم تجربة المهدية الثورية.

لم يكن ذلك مجرد تواطؤ سياسي، بل لحظة تأسيس لتحالف طويل المدى بين سلطة استعمارية تبحث عن إدارة منخفضة الكلفة، ونخب محلية تبحث عن أدوات دعم لاستعادة هيبتها. فجاء مشروع الحكم غير المباشر البريطاني–المصري ليمنح هذه النخب مفاتيح الدولة الجديدة عبر ثلاث قنوات رئيسية:

  1. الإدارة الأهلية: التي مكّنت الزعامات التقليدية من سلطات قضائية وإدارية باسم الأعراف.
  2. الطرق الصوفية: التي تم توظيفها لخلق شبكة ولاء ديني واجتماعي تضمن الاستقرار.
  3. طبقة الأفندية: التي صُنعت داخل المدارس الحديثة واحتُكرت لصالح أبناء المركز النيلي، فكانوا الواجهة البيروقراطية للإدارة الاستعمارية.

التعليم كأداة فرز لا مساواة

يُنظر إلى التعليم عادةً كرافعة للتنمية والتحديث، لكنه في الحالة السودانية كان أداة مبكرة لإنتاج التفاوت. فمنذ عشرينيات القرن الماضي، تم تشييد المدارس الحديثة في مدن محددة مثل: الخرطوم، ود مدني، عطبرة، دنقلا، والأبيض. بينما تُركت الأقاليم الغربية والجنوبية خارج خارطة التعليم.

وكما قال فرانتز فانون: “حين يُقسّم الوصول إلى المعرفة، يُقسّم المجتمع إلى أسياد ومحرومين.”

هكذا لم يكن التعليم مشروعًا وطنيًا لصناعة مواطن متساوٍ، بل مشروعًا اجتماعيًا لفرز الامتياز، وتشكيل بيروقراطية مرتبطة بالمستعمر وضامنة لإعادة إنتاج السيطرة بعد رحيله.

الأرض والاقتصاد: التمييز بالتمليك

ما يُبقي الهيمنة مستدامة ليس فقط الثقافة أو اللغة أو القانون، بل الأرض والموارد. وهنا جاء قانون الأراضي لعام 1925، ليمنح النخب المقرّبة من الإدارة الاستعمارية فرص التملّك والاستثمار في المشاريع الكبرى، وعلى رأسها مشروع الجزيرة الذي تحوّل إلى قلب الاقتصاد السوداني لعقود.

في المقابل، جرى تهميش أقاليم بأكملها من أي تخطيط تنموي، وتم التعامل مع سكانها كمصادر للعمالة الرخيصة. دارفور، كردفان، جنوب السودان، جبال النوبة—كلها أُقصيت من حق التملك والمشاركة في موارد الدولة. وهكذا تحوّلت الأرض من مورد مشترك إلى وسيلة للفرز الطبقي والجهوي.

في هذا السياق تُسجّل واحدة من أكثر القصص دلالة: ففي عام 1928، تقدّم الشيخ خلف، أحد زعماء جبال النوبة، بطلب رسمي لشراء قطعة أرض زراعية لتأسيس مشروع تعاوني لأبناء مجتمعه. إلا أن سلطات الإدارة البريطانية رفضت طلبه بصرامة، بحجة أن منطقته مصنفة “منطقة مقفولة” ولا يجوز فيها التملك إلا بتصاريح خاصة.

هذا الرفض لم يكن محايدًا أو تقنيًا، بل جزءًا من سياسة مقصودة لعزل سكان تلك المناطق عن فرص التنمية والتمليك، وحصر الموارد بيد من تماهوا مع المركز. لقد تحوّلت قوانين الأرض إلى أدوات فرز، لا أدوات عدالة. وهو ما ترك أثرًا بنيويًا لا يزال يُعاد إنتاجه حتى اليوم.

جهاز الدولة مفصَّل على مقاس المركز

منذ بدايات الدولة الحديثة، كانت البيروقراطية تُبنى على أساس الولاء الجغرافي والثقافي لا الكفاءة. ففي عام 1952، وقبل الاستقلال بأربع سنوات، كان أكثر من 85٪ من موظفي الخدمة المدنية العليا ينتمون إلى شمال ووسط السودان.

هذه النسبة لم تكن صدفة، بل كانت نتيجة سياسة مُمأسسة تحدّد من يتمكّن من التعليم، ومن يحصل على الفرصة، ومن يُقصى.

ثم جاءت قوانين المناطق المقفولة (1922–1947)، لتمنح هذا التمييز غطاءً قانونيًا: إذ فُرضت العزلة على الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق، ومُنعت حركة سكان هذه المناطق، بينما فُتح المركز للنقل والتوظيف والتعليم. الدولة نفسها تم تشكيلها على قياس طبقي وجهوي دقيق.

سودنة الامتياز لا تفكيك البنية

حين جاء الاستقلال في عام 1956، لم تكن هناك إرادة لتفكيك هذا النظام، بل جرت عملية تجميلية سُمِّيت بـ”السودنة”، تم فيها استبدال الإداريين البريطانيين بأبناء الحاضنة الاجتماعية التي ربّاها الاستعمار خلال العقود السابقة.

لم يُمسَّ الجهاز الإداري، ولا القوانين، ولا فلسفة السلطة. بل تسلّمت نخبة محلية جاهزة مقاليد الحكم في دولة مصمّمة للفرز، لا للعدالة. وهكذا وُلدت الدولة الوطنية لا بوصفها قطيعة مع الماضي الاستعماري، بل بوصفها امتدادًا ناعمًا له، بوجوه سودانية ولهجة وطنية، لكن بعقل بنيوي قديم.

دولة لحراسة الامتياز، لا لتحقيق المواطنة

المفارقة أن الدولة، التي كان يُفترض بها أن تصبح أداة لبناء وطن جامع، تحوّلت إلى أداة لحراسة الامتياز. فالمؤسسات، من القضاء إلى التعليم، ومن الاقتصاد إلى الإعلام، لم تُصمم لخدمة المواطن، بل لضمان استمرارية امتيازات نخبة ضيقة.

ومع مرور الوقت، تطوّرت هذه الحاضنة الاجتماعية من تحالف قبلي–ديني إلى بنية مركّبة تضم أفندية، وعسكريين، ورجال أعمال، ومثقفين. لكنها حافظت على جوهرها: الدولة ليست للجميع، بل للمركز فقط.

خلاصة: من الاستعمار إلى النسخة المحلية من التمييز

لم يكن الاستعمار البريطاني–المصري مجرد مرحلة من الاحتلال الأجنبي، بل لحظة تأسيسية لبنية سلطة لا تزال ملامحها قائمة حتى اليوم. فالاستقلال، الذي يُحتفل به سنويًا، لم يكن قطيعة حقيقية، بل عملية نقل سلطة إلى نخبة مصنوعة في مدرسة المستعمر.

وما الدولة التي ورثناها إلا نسخة محدثة من إدارة التمييز القديمة.

إن فهم هذه الجذور لا يعني فقط إعادة قراءة الماضي، بل هو شرط ضروري لفهم أزمات الحاضر، وفشل الثورات، وتعثّر مشروع بناء وطن جامع. ما لم يتم تفكيك الحاضنة الاجتماعية التي صاغها الاستعمار وسلّمها للمركز، فإن الدولة ستبقى كما كانت: جهازًا لإعادة إنتاج التفاوت باسم السيادة.

وليس هذا مجرد استنتاج تاريخي، بل واقع تؤكده الأرقام. فبحسب تقرير أممي صدر في عام 2023، فإن 80٪ من الأراضي الزراعية المسجّلة في دارفور تملكها 15 عائلة من المركز. دليل حيّ على أن التمييز البنيوي الذي صاغه الاستعمار لا يزال يتحكم في مفاصل الثروة والسلطة حتى اليوم.

في المقال التالي:

لكن كيف تحوّلت هذه الدولة إلى منظومة متكاملة لحراسة الامتياز؟ وكيف لعب الجيش، الذي بدأ كأداة استعمارية لقمع التمردات في الأطراف، دور العمود الفقري في إعادة إنتاج هذه البنية بعد الاستقلال؟

في الجزء الثاني من هذه السلسلة، سنبحث في تشكّل المؤسسة العسكرية السودانية، ونحلّل كيف تحوّلت من قوة خارجية إلى أداة داخلية لإدامة المركز وإخضاع الهامش، عبر تحالفات مع البيروقراطية والرأسمالية الطفيلية.

هذا المقال هو الجزء الأول من سلسلة مقالات تحليلية مستخلصة من الورقة الأكاديمية: “الدولة الغولة – تحليل في الحاضنة الاجتماعية والتمييز البنيوي في السودان”، للكاتب المودودي الدود آدم.

تتناول السلسلة جذور الدولة السودانية الحديثة، وعلاقتها بالاستعمار، والحاضنة الاجتماعية، والتمييز الممنهج في توزيع السلطة والثروة

إرسال التعليق

لقد فاتك