العروبة في السودان : تحريرٌ مِنْ مَنْ؟
دائمًا ما يستفزني موقف دعاة الأفرقة للتفكير حول معاني الصراع الاجتماعي الذي نعيشه؛ فكثيرٌ مما يُرمى به العرب والزنوج هو أمرٌ حادث، أتى به الاستعمار ومؤسساته، وليس بقديمٍ من زمنٍ عادٍ.
وأجدني أعيد النظر في الحرب الحالية في السودان، ولا أجد تفسيرًا لمواقف الكتل الاجتماعية السودانية إلا أن العروبة أصبحت محنة، بعد أن كانت في السابق اللحمة التي جمعت وشكلت هوية السودانيين.
اليوم، نجد المجتمعات المتحدثة بالعربية في السودان تحت نيران الاتهام والإدانة؛ تُرمى بادعاء العروبة حينًا، وبالاستعمار والجرائم التاريخية حينًا آخر. ويقلقني مقدار الطاقة الجبارة التي يبذلها دعاة الأفرقة في سبيل إدانة العروبة ونفيها عن السودان. وأسأل: ما مصدر كل هذه الطاقة الجبارة؟ وما العقدة النفسية أو التاريخية التي يسعون إلى فكها؟ خصوصًا أن خطابهم يوصَف بأنه خطاب تحرير. فأعود لأسأل: تحريرٌ من مَنْ؟ ومِنْ ماذا؟
أبدأ هذه المقالات بذكر الأصول؛ فقد نشأت في كنف أسرة ممتدة في غرب السودان: الأم فيها تمتد جذورها إلى بحر العرب جنوبًا وأبشي غربًا، ومجال الدراما الإنسانية فيها ممتد على طول مستعمرة أفريقيا الوسطى والسودان وليبيا، أما الأب فمن أسرة إدارة أهلية لقبيلة تجمع بين زنوجة الأصل وعروبة اللسان، تضم عشائر مندمجة تمتد من كردفان جنوبًا حتى أسوان شمالًا. وكان معيار الانتماء فيها للأسرة وحرفتها وأخلاقها. وقد شهدتُ تبدّل الوعي العام من الأسرة والسعي للرفاه الاجتماعي عبر التعليم والتجارة، إلى وعيٍ جديد يمجد القبيلة ويسعى للهيمنة القبلية عبر نخب نصف متعلّمة، نصف واعية؛ لديها مآزقها المرتبطة بالتاريخ والأصل والشرعية.
أولًا: تحريرٌ من مَنْ؟
يبسّط خطاب الأفرقة الصراع الاجتماعي في السودان، ويبدأ باستدعاء عصر ذهبي يرجع إليه كل السودانيين: عصر كوش، حيث كان السودان عظيمًا، وكان الأفارقة حكّامًا سيطروا على مصر وحكموها. ثم تلاه عصرٌ “فضي”، حكم فيه أهل السودان بلادهم وتقبلوا الأديان السماوية، حتى انتهى بهم الحال بقدوم العرب الذين “دمّروا البلاد والعباد”، بحسب السردية. ويُقال إن السودان يعيش اليوم في عصر انحطاط واستلاب ثقافي ولغوي، وإنّ التحرر من العروبة ضرورة لا محالة.
يتجاهل هذا الخطاب عمدًا الأزمة التاريخية المتمثلة في تجارة الرق، والتي ساهمت فيها معظم المجتمعات السودانية، وكانت المصدر التجاري الأول لمؤسسات الحكم التقليدي. ولم يكن الرق حكرًا على العرب، بل كان العرب لفترة طويلة السوق الأول لتجار الرق الأسود.
ومن السخرية أن نذكر أن العرب أسطروا أصولهم العرقية في قصة زواج من جارية سارة المصرية، “هاجر”، و إبراهيم، وأن الثقافة العربية نفسها سجالٌ نفسي راقٍ حرّكته نظرة الفخر والتمرّد من أصول مختلطة، وانتهى بتأسيس أخلاقيات اجتماعية جديدة جاء الإسلام فأتمّها.
رجوعًا إلى تراث العرب، نجد أن الصحابة ومن بعدهم حافظوا على أدب وأشعار الصعاليك، لأنها الأقرب إلى روح الإسلام. ولنقف عند قول عمر بن الخطاب: “علّموا أولادكم قصيدةَ الشنفرى، فإنها تعلّمهم مكارم الأخلاق”، وهي القصيدة التي أراها عصاي في تفسير موقف دعاة الأفرقة:
وفي الأرضِ منأىً للكريمِ عن الأذى
وفيها لمن خاف القِلى متعزَّلُ
لَعَمرُكَ ما بالأرضِ ضيقٌ على امرئٍ
سرى راغبًا أو راهبًا، وهو يعقلُ
ولي، دونكم، أهلون: سيدٌ عملَّسٌ
وأرقطُ زُهلولٌ، وعرفاءُ جَياعِلُ
هم الأهلُ، لا مستودعُ السرِّ ذائعٌ
لديهم، ولا الجاني بما جَرَّ يُخذَلُ
موقف الشنفرى الذي أراد عمر بن الخطاب أن يتعلّمه أولاد المسلمين، هو موقف الأنفة والاعتداد بالذات؛ “غنائية لغوية” بوصف سلوترديك، و”إرادة قوة” بوصف نيتشه. ولكل موقفٍ غنائي واعتدادٍ بالنفس جرحٌ سابقٌ أذلّها. فما الجرح الذي سبّبته العروبة في السودان؟
يورد فرانسيس دينق في كتابه “صراع الرؤى” أن الهوية العربية في السودان كانت استيعابية، وأن الإسلام كان ضامنًا اجتماعيًا وحماية من الرق، إذ المسلم لا يُسترق. وقد عمل الإسلام على خلق حالة مجتمعية موحدة تقوم على التصوف الشعبي الذي دمج عناصر ثقافية شتى. لكن بدخول جيوش محمد علي، تحوّلت العروبة من صفتها الاستيعابية إلى مؤسسة منظمة للرق، تُستهدف فيها المجموعات بناءً على الجغرافيا لا الدين. وهي نظرة جزئية صحيحة؛ فمحمد علي حدد مناطق السودان التي يمكن فيها شنّ الغارات، لكن سبقته إلى ذلك المجتمعات المحلية نفسها، فقد كانت هناك تفاهمات بين سلطان الفور وسلاطين الفراتيت حول حملات الاسترقاق قبل محمد علي بأربعة عقود.
كما شاركت الجماعات ذاتها في استرقاق بعضها في الحروب القبلية. وسنتناول لاحقًا أدبيات الحملة الفرنسية والرقيق السوداني لتوضيح ذلك.
إن رؤية فرانسيس دينق للعروبة كهوية استيعابية دمجت الأفارقة المسلمين في السياق العربي رؤية صحيحة، لا شك لي فيها. وقد أكدت الأدبيات التاريخية ذلك؛ فطوال ألف عام، تحوّلت رواية النسب من الأصول اليهودية إلى اليمنية القحطانية، ثم إلى العدنانية والقرشية. ويظن البعض أن هذه التحولات كانت لغرض سياسي، لكن الحقيقة قد تكون أكثر تعقيدًا، إذ أن معظم المجتمعات الأفريقية ما قبل الإسلام كانت تعتمد النسب الأمومي، وحين يتحوّل المجتمع إلى نظام جديد، تتداخل الأنظمة حتى يستقر السياق الغالب. وتجد حتى اليوم الفخر بالأصول الأمومية في صورته النخبوية، وظن أغلب السودانيين أنهم أحفاد ملوك وملكات هو تأكيد لهذا الجانب الغنائي في أسطورتهم.
لكن الأزمة في الواقع تكمن في “المحلية”. فقد قام أغلب التكوين الاجتماعي السوداني على مبدأ صراع الجيران واحتقارهم. وكان مجد القبائل في التغني بحروبها مع بني جلدتها. وظل التكوين السوداني قبليًا حتى أتت التحولات الكبرى مع جيوش محمد علي، ثم مع الحكم الثنائي.
تحولت مصر محمد علي طبقيًا، ولم تعد مصر المماليك الاستيعابية. ومع بروز البرجوازية المصرية، وتفكك الاقتصاد التقليدي، وفشل السودانيين في التفاعل مع هذه التحولات حتى قدوم المهدية، وترتيبات الاستعمار القائمة على التقسيم الإثني والقبلي، نشأت تناقضات اجتماعية وسياسية كبيرة في السودان.
أي أن العروبة والزنوجة استُخدمت سياسيًا من قِبل الأطراف الاستعمارية، وتحولت الهوية من السياق القبلي إلى السياق العرقي، وفُجِّر المشروع الوطني الاستيعابي المتصوف في مقابل تصورات مستوردة تبنّتها النخب المحلية.
مأزق النخب المختلطة
ولأن أغلب هذه النخب كانت من أصول مختلطة، حيث الأم أو الجدة في موقف الضعف الاستعماري (السرية)، نشأ جرح نرجسي ووصمٌ بالاحتقار لجانبها الأمومي. انعكس هذا الجرح في خيالٍ هاربٍ إلى أساطير النسب، وهي – برأيي – أحقر أنواع الخيال. وعندما أقارنها بأدب الغربان والصعاليك، أو بأدب المتنبي وأبي العلاء، لا أجد فيها شيئًا من العروبة الثقافية. بل وتبلغ السخرية أوجها حين نجد في تمرّد دعاة الأفرقة موقفًا ثقافيًا متماشيًا مع الثقافة العربية.
بمعيار عمر بن الخطاب، يكون داعية الأفرقة أقرب إلى السُّليك والشنفرى في أخلاقه وآماله من “النخب العربية” السودانية، وهي محنةٌ توضح مدى هامشية المكونات العربية في الخارطة الثقافية.
يقول السُّليك بن السلكة، باحثًا عن نظامٍ عادل، متمرّدًا على واقعٍ نفسي قاتم:
ألا عَتَبَت عليَّ فصارَمَتني
وأعجبَها ذوو اللِّمم الطوالِ
فإنّي يا ابنةَ الأقوام أُربّي
على فِعل الوضيّ من الرجالِ
فلا تَصِلي بصُعلوكٍ نؤومٍ
إذا أمسى يُعَدُّ من العيالِ
ولكن كلُّ صُعلوكٍ ضَروبٌ
بنصلِ السيف هاماتِ الرجالِ
أشابَ الرأسَ أني كلّ يومٍ
أرى لي خالةً وسطَ الرجالِ
يشقّ عليّ أن يَلقَينَ ضيمًا
ويَعجزُ عن تخلّصِهِنَّ مالي
السليك هنا داعية تحرّر من نظام اجتماعي، لا منتقمًا ولا حاقدًا، بل ناكرًا للضيم، حافظًا للكرامة. في المقابل، نجد في الغنائية السودانية ما يناقضه. يقول صالح عبد القادر:
وأنا وادي النيل لو فتّشتني
تجدينَ في بردي بطشَ أسودِ
تجدين مجموع الكرامة والنهى
تجدين حلمَ البيض جهلَ السودِ
هذا افتخارٌ مفخّخ ومدمّر، يقرّ بموقعٍ اجتماعي ولا يقدم حلًّا، بينما افتخار السليك هجريٌّ، يعيد كرامة النفس للكل، وينصب نفسه حاميًا للضعفاء. أما افتخار صالح عبد القادر، فمبنيٌّ على البطش كمصدرٍ للكرامة.
خاتمة:
كيف لا تتمرد الروح الزنجية، وتبحث عن خلاصٍ في سرديةٍ تاريخية، كرامتها فيها مهدورة، وموقعها الاجتماعي مدان؟
ما أود قوله هنا، هو أن العروبة الثقافية الحقّة، نجد عناصرها الأساسية عند دعاة الأفرقة أكثر مما نجدها عند المفتخرين بعروبتهم. فالسليك والشنفرى وعنترة، بل حتى أبو العلاء والعتّاهية، مرفوضون ضمنيًا من دعاة العروبة في السودان. وإنّ مأزق دعاة العروبة في السودان الثقافي، أكبر من مأزق دعاة الأفرقة. فالأخير يُنظر إليهم بوصفهم إحياءً ثقافيًا للهامش الزنجي العربي.
ويبقى السؤال الجوهري: تحرّرٌ من ماذا؟
وهو السؤال الذي علينا طرحه بجدية، لنتجاوز الثنائيات الهدّامة
إرسال التعليق