ما بعد نهاية التاريخ (٣)
إذا كانت الليبرالية الغربية كما رأينا في الجزء السابق، قد قدمت نفسها كأفق أخلاقي ونهائي للتاريخ من خلال نزع التعدد وإقصاء التاريخ الهامشي فإننا نصل في هذا الجزء إلى لحظة تفكك ذلك الأفق وبداية استعادة التعدد بوصفه شرطًا للمعنى.
منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، بدا كما لو أن الليبرالية الغربية قد انتصرت لا بوصفها منظومة سياسية فحسب، بل كأفق نهائي للمعنى الإنساني. كان ذلك هو ما عبّر عنه فرانسيس فوكوياما في أطروحته الشهيرة عن نهاية التاريخ، التي لم تكن كما يُذكّرنا ليوتار سوى سردية كبرى أخفت تناقضاتها، محوّلةً مسار التاريخ البشري إلى خطاب هيمنة يُختزل في تحقق الحرية العقلانية الغربية. فادعاء فوكوياما بأن اللحظة الليبرالية هي اكتمال فلسفي لم يكن إلا محاولة لاختزال التعدد الإنساني في نموذج أحادي، متجاهلاً أن كل ادعاء بالحقيقة الكونية يُخفي تحته أزمته الخاصة.
لكن، وكما تبيّن لاحقًا، فإن هذه النهاية لم تكن سوى واجهة مؤقتة لتوازن عالمي هشّ. فمع بداية الألفية الثالثة، تراجعت هيمنة المركز الغربي، وبدأت تتشكل مجددًا خطوط صدع حضارية واقتصادية وفكرية. عادت التعددية، لا بوصفها اختلاف مواقع جغرافية فحسب، بل كتعدد في القيم والمنظورات والتصورات الكونية.
العالم لم يعد يتحرك في اتجاهٍ واحد تُحدده واشنطن أو بروكسل، بل في اتجاهات متقاطعة تطرح أسئلة مغايرة عن الحرية، والسلطة، والكرامة الإنسانية. دول الهامش بدأت تُعيد تقديم نفسها ليس فقط كمفعول به في التاريخ، بل كفاعل قادر على صياغة سرديته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة للشرعية والعدالة.
وبهذا المعنى، فإن ما ينهار ليس النظام الدولي فقط، بل أسطورة الكونية الليبرالية التي طالما رُوّج لها كذروة تطور العقل البشري. وهذا ما أشار إليه المفكر الصيني تشانغ وي وي في نقده لفوكوياما، حين رأى أن أطروحة نهاية التاريخ ليست سوى إسقاط غربي على مسارات العالم المختلفة، وإغفال متعمد للتجارب الحضارية التي لم تختر النموذج الليبرالي طريقًا لها.
لكن في مقابل هذا التفكك في المنظومة الليبرالية، برزت محاولات أخرى لتقديم نهاية جديدة للتاريخ من خارج المركز الغربي. من أبرز هذه المحاولات ما يطرحه تشانغ وي، الذي وإن كان يهاجم الكونية الغربية بوصفها أداة هيمنة ثقافية، إلا أنه يقع في فخ مماثل حين يسعى إلى تعميم النموذج الصيني كبديل كوني جديد. وهنا يبرز تحذير ليوتار الجوهري فحتى النماذج البديلة كالصيني أو الإسلامي تظل أسيرة منطق الهيمنة ما دامت تسعى لتعميم نفسها كسرديات كبرى جديدة. التعددية الحقيقية لا تعني استبدال مركز بآخر، بل تفكيك فكرة المركزية ذاتها
فبدلًا من نقد منطق النهاية ذاته، يقترح تشانغ نهاية مختلفة للعالم دولة مركزية قوية، نمو اقتصادي غير ليبرالي، واستقرار سياسي قائم على الخصوصية الحضارية. ورغم أن هذه الأطروحة تفكك الخطاب الليبرالي، فإنها تعيد إنتاج وهم السيطرة من مركز جديد، وكأن العالم لا يُمكن أن يُفكر إلا من خلال قطب مهيمن واحد، سواء كان غربيًا أو شرقيًا.
وبشكل موازٍ، ظهرت أطروحة صراع الحضارات لهنتنغتون، التي وإن بدت ظاهريًا نقيضًا لأطروحة فوكوياما، إلا أنها في جوهرها تشاركها نفس البنية الذهنية الاستبعادية. فكما أن فوكوياما اختزل التاريخ في سردية ليبرالية، فإن هنتنغتون يحبسه في صراع حضارات لا يقل إقصائية، مما يؤكد أن الهيمنة قد تتخذ أشكالاً متعددة، لكنها تظل هيمنة ما دامت تنكر تعددية السرديات الصغرى
ما نرفضه هنا ليس فقط سردية نهاية التاريخ، بل كل محاولة لاستبدال سردية كونية بأخرى، لأن المعضلة تكمن في منطق الهيمنة ذاته، لا في وجهته. المطلوب ليس بديلًا مهيمنًا، بل تعددية فعلية تعترف بتنوع الشعوب، وتجاربهم، وسردياتهم المستقلة.
وفقًا للجدل الهيغلي الذي أساء فوكوياما استخدامه، فإن كل لحظة نهاية هي في ذاتها بداية نفيٍ جديد، لحظة انفتاح لا انغلاق. وما يحدث اليوم هو عودة تلك التناقضات، لا باعتبارها إخفاقات عرضية، بل كمؤشرات على استعادة التاريخ لحيويته، وانفتاحه على تعددية لم تعد قابلة للإنكار.
نحن الآن أمام إعادة اختراع العالم، لا بوصفه لحظة قطعية، بل كمخاض طويل، تتداخل فيه الأصوات والثقافات، وتنهار فيه المركزيات الكبرى. لم يعد السؤال هو ما الذي سيحلّ محلّ الليبرالية؟ بل كيف نكسر احتكار سردية واحدة لمستقبل البشرية؟
بهذا المعنى، فإن التاريخ لم ينتهِ أبدًا بل ما انتهى هو وهم التحكم فيه من مركز واحد. وكل ما نحتاجه الآن هو تفكيك أدوات الاحتكار المعنوي والسياسي، لصالح عالم يتعدد لا فقط في خرائطه، بل في معانيه وطرق عيشه.
إرسال التعليق