التاريخ المسلوب و الهوية المشتتة
لفهم مأساة السودان الحالية، لا بد من العودة إلى جذور تأسيس الدولة السودانية الحديثة. هذه الدولة نشأت على أسس استعمارية، حيث فرض الاستعمار البريطاني-المصري تقسيمًا عميقًا اختزل التنوع الهائل في البلاد إلى تصنيفات ضيقة، وربطها بنظام مركزي يهيمن عليه مركز واحد يهمّش الأطراف.
كانت هذه اللحظة بداية انزلاق السودان نحو أزمة هوية ممتدة. فقد تم فرض نظام سياسي لا يحترم تعددية المكونات، ولا يعترف إلا بما يخدم المركز، مما أنتج دولة مختلّة وظيفيًا، هشّة في بنيتها، مشوّهة في مفهوم المواطنة.
على مدار قرن من الزمان، عاش السودان سلسلة من الحروب والصراعات؛ من الحرب الأهلية في الجنوب، إلى نزاعات دارفور والنيل الأزرق. لم تكن هذه مجرد صراعات مسلّحة، بل محطات في مسلسل طويل لإعادة توزيع الهوية والمواطنة على أسس تهدد وحدة الوطن.
كانت تلك الحروب مدفوعة بسياسات مركزية تسعى إلى إعادة إنتاج ذاتها، عبر تهميش الأصوات المطالبة بالتنوع والعدالة. الجماعات المهمّشة أُجبرت على القتال دفاعًا عن حقها في الوجود، في مواجهة دولة لا تعترف بها إلا كتهديد.
شهد السودان ثورات متعدّدة، أبرزها ثورة ديسمبر 2018، التي عبّرت بصدق عن تطلّع شعبٍ إلى دولة مدنية تكفل الحقوق والمساواة. لكن ما لبث أن جاء أبريل 2023 ليقضي على هذا الحلم، بانقلاب عسكري أعاد إنتاج القمع والتهميش، وبسط سيطرته على مفاصل الدولة بالقوة والدم.
في ظل هذه المرحلة، أصبح المواطن السوداني المنسيّ أكثر عرضة للإقصاء والاستهداف، واقعٌ مرير يكشف عمق الأزمة التي تتجاوز السياسي إلى ما هو وجودي؛ إلى قلب الهوية ذاتها. هوية مكسورة، تبحث عن ذاتها وسط أنقاض دولة تتآكل.
من هنا، لا يمكن قراءة هذه الأزمة قراءة سطحية أو آنية. إنها تتطلب مواجهة صادقة لتاريخ الدولة، وفهمًا عميقًا لجذور الانقسام، ومراجعة شاملة لمفهوم الهوية الوطنية، التي يجب أن تُبنى على أسس التعدد والعدالة، لا على الإقصاء والاستعلاء.
إن “الجمهورية السوداء” ليست فقط توثيقًا لما حدث، بل هي دعوة لإعادة النظر، لكتابة تاريخ جديد يحمل في جوهره حلم السودان الحقيقي؛ وطنًا يتسع للجميع، ولا يستثني أحدًا.
إرسال التعليق