أزمة السودان الدستورية

من المعلوم أن الدستور في أي دولة يُعد الوثيقة السياسية والقانونية والاجتماعية الأهم، فهو الذي يحدد شكل الدولة ونظام حكمها، وينظم علاقة وصلاحيات السلطات الثلاث، ويصون الحقوق والحريات العامة. وهو أسمى القوانين في الدولة، وبغيابه تتعطل القوانين الأخرى وتُصاب المؤسسات بالشلل، وتُصبح أعمالها وتصرفاتها عرضة للبطلان.

لقد عانى السودان، منذ أن نال استقلاله في العام ١٩٥٦م وأصبح عضوًا في المجتمع الدولي (الأمم المتحدة)، من أزمات سياسية واجتماعية متعددة أعاقت مسيرة تطوره واستقراره. وكان الاستقلال ثمرة نضال رجال الحركة الوطنية، وعلى رأسهم – على سبيل المثال – السيدان المرحومان إسماعيل الأزهري ومحمد أحمد المحجوب.

وبما أن هذه الفترات تمثل تاريخًا طويلًا يشمل السودان القديم (شماله وجنوبه)، فإن تناولها بالتفصيل يتطلب مساحة واسعة وزمنًا طويلًا. وعليه، سأترك هذا التاريخ بتجاربه الإيجابية والسلبية جانبًا، وأسلّط الضوء على الفترة الراهنة، والتي تُعد تجربة وممارسة سياسية تتسم بالاستمرار دون سند أو مرجعية دستورية، مما خلّف معاناة وكوارث وأزمات إنسانية واجتماعية لا تُعد ولا تُحصى، يُعاني منها الوطن ومواطنوه أشد المعاناة.

على أعقاب ثورة ديسمبر ٢٠١٨م، وقبل إزالة ركام وأنقاض نظام المخلوع البشير، الذي عمّق أزمات السودان خلال ثلاثين عامًا من حكمه، دخل المدنيون (قوى الحرية والتغيير) في شراكة مع المكون العسكري (المجلس العسكري) بموجب الوثيقة الدستورية لعام ٢٠١٩م (تعديل ٢٠٢٠م)، وذلك لإدارة فترة انتقالية حُدّدت بـ (٣٩) شهرًا تبدأ من تاريخ التوقيع على الوثيقة.

لكن، ومنذ ذلك الوقت، ولغياب النية والإرادة لدى المكون العسكري (الجيش) في تنفيذ بنود الوثيقة – باعتبارها عقدًا مُلزِمًا لأطرافه – كان واضحًا إصراره على عرقلة مسار التحول المدني الديمقراطي، فاستمر في افتعال الأزمات وإعاقة تنفيذ البنود، خاصة تلك المرتبطة بنقطتين جوهريتين عجلتا بانقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، وهما: تفكيك نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩م، ونقل رئاسة مجلس السيادة إلى المكون المدني.

بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر، وجد المكون العسكري الذي ارتكب جريمة الانقلاب نفسه محاطًا بالضغط والمقاومة المدنية الثورية داخليًا، وبالعزلة الإقليمية والدولية الرافضة للانقلاب. وبسبب الانقسامات داخل مكونه، وعدم قدرته على الاستمرار، اضطر للدخول في عملية تفاوض مع المكون المدني عبر وسطاء ومسهلين إقليميين ودوليين (آلية فولكر). وأسفرت هذه العملية السياسية عن التوقيع على الاتفاق الإطاري، الذي نص بوضوح على إنهاء الانقلاب والتحول إلى حكم مدني ديمقراطي.

لكن المؤسف أن السلوك الاستبدادي والمخادع الذي اتسم به البرهان عاد للظهور مجددًا، فاستخدم نفس الأساليب مع المدنيين، ليتضح بشكل جلي أنه لم يكن صادقًا ولن يكون، لا في ماضيه ولا في حاضره أو مستقبله.

إن حرب ١٥ أبريل الجارية، التي تشنها فلول النظام البائد مدعومة بقوى إقليمية، هي حرب ضد التحول المدني الديمقراطي، وضد كل مدني ينادي بالتغيير. والدليل على ذلك حجم الضحايا والانتهاكات والاستهداف المنظم في صفوف المدنيين.

ومنذ انقلاب ٢٥ أكتوبر، الذي أطاح بالحكم الانتقالي، انتهت الوثيقة الدستورية كمرجعية قانونية لحكم البلاد. وحتى هذه اللحظة، لا يمتلك المكون العسكري – الذي تتحكم فيه عناصر النظام البائد من بورتسودان بقيادة البرهان – أي مشروعية دستورية، إذ أصبح يتعامل مع الوثيقة كالإله المصنوع من العجوة: يعبده حينًا، ويأكله حينًا آخر.

بالتالي، فإن كل الأفعال والإجراءات الصادرة عن الأجهزة الانقلابية منذ ذلك الحين تُعد باطلة بطلانًا مطلقًا، ولا سند قانوني لها.

إرسال التعليق