حين يُغادر الجبل: رثاء العمدة أبو نوبة… شيخُ القيم، وسند الرجال

بقلم : حذيفة ابو نوبة

في لحظات الفقد الكبرى، تصمت الحناجر، وتتكسر اللغة على حافة الحزن، رحل والدي، العمدة عبدالله مصطفى أبو نوبة، كما يرحل الكبار بصمت المهابة، لا يُحدثون ضجيجاً في وداعهم، لكنهم يخلفون فراغاً لا يُملأ، وأثراً لا يُمحى.

لم يكن أبي مجرد والد، بل كان في حياتنا مؤسسة قيمية واجتماعية متكاملة، تربينا في ظلاله، وتعلمنا من حكمته، وتشربنا منه فنون الصبر، وفروسية الأخلاق. رجل الإدارة الأهلية، الذي عرفته المجالس العرفية شاهداً بالحق، وفارضاً للهيبة، وساعياً بالصلح حيثما استشرت الخلافات.

كان مضيافاً كريماً، لا تُغلق أبواب بيته في وجه عابر أو محتاج، ولا يُرد سائل، ولا يُقصى غريب، يجالس الكبير، ويُكرم الصغير، ويجمع بين لين القول وصرامة الحق. في زمن كانت فيه المروءة عملة نادرة، كان هو المعيار والميزان.

عاش والدي العمدة عبدالله مصطفى أبو نوبة بسيطاً في ملبسه، عزيزاً في مواقفه، واضحاً في خصومته، نزياً في رأيه. ما سعى يوماً للمنصب، بل كانت المناصب تسعى إليه، لأن رجالات القرى والبوادي كانوا يرونه حَكَماً عدلاً، وسنداً يُطمأن إليه.

وإن كان قدوةً في السلوك العام، فهو في بيته كان أباً حاضراً بقلبه، لا بسلطته، يشرف على تفاصيل التربية بتأنٍ ورفق، ويرى أبناءه امتداداً للرسالة لا مجرد نسبٍ ولُحمة. علّمنا أن القيم لا تُدرس، بل تُعاش، وأن الرجولة ليست صخباً بل اتزان.

ورغم ما حُمِل من مسؤوليات، ظل متواضعاً، يُجالس الناس على الحصير، ويواسيهم في المصائب، ويحتفي بهم في الأفراح، وكان دائم القول إن الزعامة تُثبتها الأفعال لا الألقاب.

برحيله، فقدنا نحن أبناءه عمود الدار، وفقدت البلدة عمقها الاجتماعي، وفقدت الإدارة الأهلية أحد أبرز رموزها الذين جمعوا بين الحكمة الفطرية والتجربة الطويلة.

لكننا نُقسم أن نبقى أوفياء لما غرسه فينا من مبادئ الشجاعة، الكرم، الصدق، والإخلاص في خدمة الناس، تلك هي وصيته غير المكتوبة، والميراث الذي لا يُباع ولا يُشترى.

ولعل في خاتمة سيرته ما يعكس جوهر رسالته في الحياة، فقد كانت آخر مساعيه، قبل أن تفيض روحه، هي إصلاح ذات البين بين قبيلة السلامات والبني هلبة، ساعياً بينهم بقلب الأب، وحكمة الزعيم، وإرادة المصلح، حتى عاد الوئام مكان الخصام، والصفاء محل التوتر.

نم بسلام يا أبي، أيها العمدة، أيها الجبل الذي لم تهزه رياح الدنيا، وعلمنا من هناك، من علو مقامك، كيف نظل على العهد رجالًا كما أردت لنا.

إلى كل من عرف والدي، العمدة أبو نوبة، وإلى من جاوره في الأرض أو شاركه مواقف الحياة، نقول لكم إن عزاءنا في رحيله، أنكم جميعاً شهود على ما قدم، وما ترك من طيب الأثر. وجزاكم الله خيراً على المواساة، وعلى الكلمات الطيّبة والدعوات التي خفّفت عنا وطأة الفقد.

وما دمتم تذكرونه بخير، فإن روحه لا تزال حيّة فينا. نسألكم أن تترحموا عليه، وتواصلوا الوفاء لذكراه، كما كان هو وفياً للناس، لا يخذلهم في الضيق، ولا يتخلى عنهم في العسر.

لقد كانت إحدى أبرز وصاياه، التي رددها في محافل الصلح ومجالس القرى، أن وحدة مجتمعات دارفور وكردفان، بل والسودان كله، هي الركيزة التي لا بد أن نتمسك بها، لأن لا إصلاح حقيقي بدون اجتماع الكلمة، ولا سلام دائم دون تجاوز مرارات الماضي نحو أفقٍ موحد يجمعنا لا يفرقنا.

إرسال التعليق