من خان الدعم السريع ؟
بقلم : عبد الحفيظ الإمام
مقدمة:
في مسرح السياسة السودانية، تتقاطع القيم والمصالح، ويظل الصدق والخيانة من أبرز الظواهر الكاشفة عن جوهر الفاعلين. وبينما يتلازمان في ظاهر المشهد، فقد هيمنت الخيانة على مجريات الواقع، حتى غدا الصدق عملة نادرة في بورصة السلطة، يصعب العثور عليها وسط ضجيج الولاءات والانقلابات.
ومنذ حقبة الجبهة الإسلامية، لم تعد الخيانة مجرّد انحراف أخلاقي، بل غدت أداة فعّالة لإدارة الدولة، وآلية للاختراق والضرب من الداخل. وقد كشف برنامج “الأسرار الكبرى” على قناة العربية، عبر اعترافات الرئيس المخلوع عمر البشير، عن مدى تغلغل النظام في مفاصل الدولة، وتجنيده لأفراد في المؤسسات المدنية والعسكرية لرفع التقارير والتنصّت على الخصوم.
⸻
التحليل:
منذ اندلاع حرب 15 أبريل، تصاعد خطاب “الخيانة” حتى صار مادة شبه يومية في الجدل العام، وبلغ ذروته مع خيانة قائد ما يُعرف بـ”درع السودان”، كيكل، وانضمامه إلى معسكر بورتسودان. هذه الحادثة أعادت طرح الأسئلة الجوهرية: من خان مَن؟ وهل الخيانة محصورة في بُعد جغرافي أم أيديولوجي؟
لقد ساهمت سرديات طويلة الأمد في اختزال مفهوم الخيانة ضمن ثنائية “الجلابة مقابل أبناء الهامش”، وهو خطاب غذّته الحركة الإسلامية عمدًا لعقود، حيث سعت إلى تصوير أي مشروع وطني جامع على أنه تحالف قبلي مضاد، واستطاعت بذلك أن تعبّئ قطاعات اجتماعية واسعة ضد مشروع السودان الجديد.
وخلال هذه الحرب، وقع كثير من الأفراد والجماعات — عن قصد أو بغير قصد — أسرى لهذا الخطاب، وكأنهم ضحايا شركٍ أُحكم نصبه من قبل النظام القديم، لتقسيم المجتمع على أسس جغرافية، وإضعاف أي مشروع وحدوي بديل.
لكن هذا الخطاب بدأ ينهار أمام الواقع. فالحملات الأمنية الأخيرة التي نفذها الدعم السريع داخل مناطق نفوذه، طالت أفرادًا من خلفيات اجتماعية وجهوية متنوعة، وأظهرت أن الخيانة لم تكن مرتبطة بقبيلة معيّنة أو جهة بعينها، بل بالانتماء التنظيمي للحركة الإسلامية.
الخيانة هنا لا تتصل بموقع الإنسان على الخريطة، بل بموقعه داخل شبكة الولاء للتنظيم. فالحركة الإسلامية، رغم سقوط واجهتها السياسية، ما تزال تحتفظ بخلاياها الممتدة داخل المؤسسات والكيانات المسلحة، وتعمل على إضعاف خصومها عبر التخريب من الداخل.
⸻
خاتمة:
من خان الدعم السريع لم يكونوا “الجلابة” كفئة اجتماعية أو جغرافية، بل أولئك الذين ظلّ ولاؤهم للتنظيم فوق كل ولاء. أولئك الذين لا وطن لهم إلا التنظيم، ولا ولاء إلا لقيادته السرّية.
ومع ذلك، لا ينبغي تعميم الاتهام. فكثيرون ممن انتموا سابقًا للحركة الإسلامية قد اختاروا طريقًا وطنيًا شريفًا، وقدموا تضحيات من أجل وطن يتّسع للجميع.
إن التحدي اليوم لا يكمن فقط في السؤال: من خان؟
بل في تفكيك العقلية التي تجعل من الخيانة تكتيكًا مشروعًا، ومن الوطن غنيمة قابلة للقسمة.
نحن بحاجة إلى خطاب جديد لا يوزّع الوطنية على الجغرافيا، ولا يقيس الولاء بالانتماء القبلي أو الإثني.
فالسودان اليوم في أمسّ الحاجة إلى سردية جديدة، ترى الصراع في جوهره بين مشروعين متضادين:
مشروع الهيمنة والاستبداد، ومشروع الحرية والعدالة.
وبين هذين المشروعين، تُحسم وجهة المستقبل.
إرسال التعليق