السودان المحروق : بين حرب النخب و صمود الهامش من دار فور إلى ١٥ أبريل
السودان المحروق: بين حرب النخب وصمود الهامش من دارفور إلى 15 أبريل
مقدمة: حين يُحترق وطن في عتمة النخب
في كل مرة يظن فيها السودان أنه بلغ القاع، تنكشف طبقة أعمق من المأساة. وطن تُرك لعقود ليُدار كضيعة خاصة للنخب، حيث لا عدالة، لا عدالة اجتماعية، ولا أفق سوى الفشل المعاد تدويره. ومن قلب الخراب ينبثق سؤال ضخم ومفصلي: هل نحن أمام لحظة النهاية لدولة الخرطوم، الدولة التي قامت على المركزية الإقصائية، أم أمام ولادة جديدة لوطن من رحم رماد الحرب؟
لقد تفجرت الحرب في 15 أبريل 2023، لكنها لم تكن سوى تتويج طبيعي لمسار طويل من التهميش والتمييز والظلم البنيوي. هذه ليست حرب جنرالين، كما يُروَّج في الإعلام السطحي، بل حرب نخبة ضد الأغلبية، وحرب مركز متغطرس ضد هامش ظل يدفع فواتير التاريخ وحده.
- جذور الحريق: دارفور، الجنوب، النيل الأزرق، وجبال النوبة
منذ استقلال السودان، ظل النظام السياسي يُعيد إنتاج نفسه عبر تحالفات صفوية (طائفية – عسكرية – قبلية – إسلاموية – مدنية نفعية)، تستند إلى الخرطوم كمركز سلطوي مُتحكم، يُقصي كل ما عداه.
في 1983، انفجرت شرارة الحرب في الجنوب مجددًا، بسبب فشل المركز في الاعتراف بحقوق الجنوب السياسية والثقافية والدينية. ظهر حينها الدكتور جون قرنق حاملاً مشروع “السودان الجديد”، الذي طرح سؤال الهوية والمواطنة والدولة بطريقة لم يفعلها أحد من قبله.
في 2003، اشتعلت دارفور، لا بسبب نزاع قبلي كما زعمت الدولة، بل لأن إنسان دارفور ظل مهمشًا ومقصيًا ومُهانًا في بلده. وحين طالب بحقوقه، واجهته الدولة بالإبادة الجماعية.
في النيل الأزرق وجبال النوبة، منذ الثمانينات وحتى اليوم، خاضت الحركة الشعبية معارك مريرة دفاعًا عن أرض وثقافة وحق في الحياة الكريمة.
كل هذه الحروب ليست طارئة، بل نابعة من بنية دولة مريضة أُسِّست على الإقصاء العرقي والثقافي والجغرافي، وعلى احتكار الثروة والسلطة.
- حرب 15 أبريل: هل كانت مفاجئة؟
لم تكن حرب 15 أبريل مفاجئة إلا للواهمين. التناقضات داخل بنية السلطة، وسياسات الإقصاء، والعجز عن بناء جيش وطني موحد، وانفجار صراع المصالح بين النخب العسكرية – الاقتصادية – الدولية، كلها كانت قنابل موقوتة.
في الخلفية، دولة احتكرتها صفوة سياسية واقتصادية ترتبط بعلاقات خارجية تحركها المصالح، لا المصلحة الوطنية. وسرعان ما انكشف وجه الخرطوم الحقيقي: مدينة نخب بلا شعب، تُدار لصالح فئة صغيرة، وتعجز حتى عن حماية سكانها.
- النخب والصفوة: من يدير السودان؟ ومن يملك مؤسساته؟
منذ الاستقلال، ظلت حفنة من الأسر والمجموعات (في الوسط والشمال النيلي خاصة) تهيمن على مفاصل الدولة:
تسيطر على البنوك والشركات الكبرى.
تُمسك بمفاصل الجيش والدبلوماسية.
تُهيمن على الإعلام، والتعليم، والقضاء.
هذا التحكم لم يكن مجرد تسلط، بل إعادة هندسة الدولة السودانية بحيث تخدم مصالحهم فقط. بينما تُركت بقية المناطق – دارفور، كردفان، النيل الأزرق، الشرق – في دائرة التهميش المقنن.
- الاقتصاد كأداة للإقصاء والاستحواذ
الاقتصاد في السودان ليس مجرد نشاط مالي، بل أداة هيمنة. النخب استغلت سيطرتها على الشركات الحكومية (الاتصالات، التعدين، البترول، البنوك، التصنيع الحربي) لتغذية سلطتها وشراء الولاءات. بينما لم يُستثمر شيء يُذكر في تنمية المناطق المهمشة.
الشركات السيادية والعسكرية والمدنية ظلت مغلقة على دائرة ضيقة. لا عدالة في الفرص، ولا في التوظيف، ولا في توزيع الدخل.
- النزوح، اللجوء، وهروب العقول
ملايين السودانيين يعيشون اليوم كلاجئين في المنافي، أو نازحين في الداخل. الحرب الأخيرة وحدها هجّرت أكثر من 10 ملايين. وهذه ليست مجرد كارثة إنسانية، بل اغتيال لمستقبل السودان نفسه، حيث يهرب الأطباء والمهندسون والمثقفون، وتُترك البلاد للفراغ والفوضى.
- لماذا لا ندير تنوعنا؟ ولماذا نفشل في بناء دولة؟
السودان واحد من أكثر الدول تنوعًا في القارة. لكن هذا التنوع كان يُدار بالعنف، لا بالاعتراف. بالحذف، لا بالتمثيل. بالوصاية، لا بالشراكة.
الدولة المركزية فشلت في أن تكون بيتًا جامعًا لكل السودانيين، فصارت آلة قمع ضد من يختلف عنها عرقيًا أو ثقافيًا أو جغرافيًا.
- سقوط دولة الخرطوم وصعود الهامش
الخرطوم سقطت، لا فقط عسكريًا، بل كمفهوم. كمركز مُصطنع للقرار والثروة. صمدت لأكثر من 60 عامًا بسبب الحماية الدولية، والتحالفات الداخلية، وغياب الوعي الجماعي. لكنها سقطت حين حمل الهامش السلاح ودخل المعركة، ليس بغرض الانتقام، بل استرداد الكرامة.
ما نشهده اليوم هو تفكك الدولة القديمة، وبداية ولادة ممكنة لدولة جديدة، إن توافرت الإرادة.
- ما مصير الهامش؟ وهل يُكافأ أم يُقصى من جديد؟
الهامش هو من قاتل. من دافع. من صمد. ولكن التاريخ يقول إن كل مرة يُطلب من الهامش أن يُقاتل، ثم يُقصى عند توزيع الغنائم.
السؤال الآن: هل سيشارك الهامش في بناء الدولة الجديدة؟ أم سنعيد إنتاج المركزية بوجوه جديدة؟
خاتمة: هل نكتب العقد الجديد؟ أم ننتظر محرقة أخرى؟
ليس أمام السودان خيار سوى إعادة كتابة عقده الاجتماعي.
دولة عدالة.
توزيع عادل للسلطة والثروة.
اعتراف بالتنوع.
إنهاء لاحتكار النخب.
وإلا، فستبقى الحروب تتكرر. وسيبقى الوطن يُحترق في صمت.
اللحظة الآن لحظة مفصلية. إما أن نبني وطنًا يتسع للجميع، أو نموت جميعًا ونحن نحلم به.
إرسال التعليق