بين رؤية الحلو و مكاسب جبريل و مناوي : صراع الهوية و السلطة في قلب السودان
بين رؤية الحلو ومكاسب جبريل ومناوي
صراع الهوية والسلطة في قلب الدولة السودانية
تُعَدّ الأزمة السودانية واحدة من أعقد الأزمات في المنطقة، ليس فقط بسبب تعدّد النزاعات المسلحة أو الانقلابات السياسية، بل لأنها أزمة ذات جذر متأصل في هوية الدولة نفسها، وفي طبيعة النظام الذي نشأ منذ الاستقلال، واستمر في إقصاء أطراف واسعة من المجتمع، عبر تغليب هوية أحادية إسلاموعروبية مركزية على حساب التنوع الإثني والثقافي والديني الغني في السودان.
⸻
لذلك…
هناك تباين جوهري بين أجندة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، ومواقف حركات دارفور المسلحة بقيادة مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم، ليس فقط على مستوى الخطاب، بل في طبيعة الرهانات والغايات.
فما بين مشروع يسعى لتفكيك جذور الأزمة وبناء دولة جديدة على أسس المواطنة والعدالة، ومشروع آخر يسعى لمواقع ضمن النظام القائم دون تغييره جذريًا، تتجلى المفارقة بين الموقفين بشكل صارخ وواضح.
⸻
مشروع عبد العزيز الحلو
تفكيك دولة الهوية الأحادية
تبنّى عبد العزيز الحلو، من خلال الحركة الشعبية، رؤية جذرية في التعامل مع أزمة السودان، تقوم على الاعتراف الصريح بأن الأزمة ليست سياسية فحسب، بل وجودية وهوياتية. وقد عبّر عن ذلك مرارًا في مواقفه المعلنة ومشروع الدستور الانتقالي الذي طرحه.
أبرز مرتكزات مشروع الحلو:
• فصل الدين عن الدولة: ضمانة لعدم استخدام الدين كأداة للقمع السياسي والاجتماعي، خاصة تجاه المجتمعات غير المسلمة.
• دولة علمانية ديمقراطية: تقوم على المواطنة المتساوية دون اعتبار للدين أو العرق أو اللغة.
• إعادة تعريف الهوية السودانية: بشكل يعكس التنوع الحقيقي، لا فرض هوية عروبية مركزية مستوردة.
• العدالة الانتقالية والتوزيع العادل للثروة والسلطة.
رغم تصادمية هذه الرؤية مع بنية الدولة التقليدية، إلا أنها الوحيدة التي تضع إصبعها على الجرح الحقيقي، وتفتح أفقًا لبناء دولة حديثة تشمل الجميع، لا تُدار بمنطق الغنائم والمحاباة.
⸻
جبريل ومناوي
التفاوض من داخل النظام بدل تغييره
في المقابل، تُظهر التجربة السياسية لكل من جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي انحيازًا متزايدًا إلى مفهوم الشراكة النفعية مع المركز، لا إلى مشروع تغيير جذري.
فبعد توقيع اتفاقية جوبا للسلام، عاد الرجلان إلى الخرطوم لا كمعارضين للنظام، بل كشركاء في حكومة انتقالية أضعفت قيم الثورة، وسرعان ما أصبحا جزءًا من منظومة تبحث عن الحصص والمناصب.
أهداف مشروع جبريل ومناوي:
• التركيز على قسمة السلطة والثروة دون المساس بجوهر الدولة المركزية الظالمة.
• التحالف المرحلي مع الإسلاميين، خصوصًا في الفترات الحرجة مثل ما حدث بعد انقلاب 25 أكتوبر.
• الابتعاد عن المطالب الجوهرية المرتبطة بالهوية، والعدالة، والتوزيع الحقيقي للثروة.
• احتكار التمثيل لصالح فئات مقربة منهم، مما أدى إلى تآكل الثقة فيهم داخل دارفور نفسها.
والمفارقة أن هذه المواقف تخدم مصالح المركز الإسلاموعروبي القديم، الذي يدرك أن هذه التحالفات الجزئية لا تشكّل تهديدًا وجوديًا له، بل تعيد إنتاج شرعيته تحت شعارات السلام.
⸻
السؤال الأهم:
من المستفيد من هذا المسار السياسي؟
مشروع الحلو يخدم المجتمعات المهمّشة في النيل الأزرق، وجبال النوبة، ودارفور، لأنه يقوم على إعادة صياغة الدولة لتخدمهم بشكل متساوٍ مع غيرهم.
أما مشروع مناوي وجبريل، فالمستفيد منه هم الدوائر الصغيرة المحيطة بهم: من مستشارين، ومقاولين، وأصحاب امتيازات مرتبطة بالسلطة، بينما يبقى المواطن الدارفوري البسيط خارج معادلة الربح تمامًا.
⸻
يا صديقي…
الحديث عن “السلام” هنا لا يعكس سلامًا حقيقيًا، بل هدنة لتقاسم الكراسي تحت سقف نظام ظالم لم يتغيّر جوهره منذ الاستقلال. ويعمل هؤلاء الانتهازيون — أمثال جبريل ومناوي — على تمكينه كلما تلقّى ضربات قوية.
⸻
يا صديقي…
ما نحتاجه في السودان اليوم ليس قادة يدخلون في بورصة السياسة بحثًا عن المناصب، بل مشروعًا وطنيًا يؤسس لدولة جديدة، تعترف بمآسي الماضي، وتعيد الاعتبار للإنسان السوداني، أيًّا كان لونه، أو دينه، أو لغته.
⸻
الحلو…
ليس معصومًا من الخطأ، لكنه يمثّل منارة فكرية تطرح أسئلة مصيرية حقيقية. أما الآخرون، فقد اختاروا الطريق الأسهل: طريق المشاركة في السلطة دون مساءلتها، طريق اللحاق بالحافلة بدلًا من إصلاح مسارها، طريق البحث عن “كراع جداداي” حتى إن كانت جيفة.
⸻
وما بين من يسعى لبناء دولة مواطنة، ومن يسعى لمكانٍ في دولة الظلم، يكمن الفارق بين مشروع تحرير… ومشروع توظيف
إرسال التعليق