سارة السعيد : تحت الرماد |حين تبتلع القاهرة نارها: عن الغطرسة التي تصنع فخّها بنفسها - صوت الوحدة

سارة السعيد : تحت الرماد |حين تبتلع القاهرة نارها: عن الغطرسة التي تصنع فخّها بنفسها

‏هناك نوع من الغطرسة السياسية لا يتعلّم إلا بالاحتراق. تظن القاهرة، وهي تتأمل في مرآة النيل، أنها ما زالت ترى ظلّ عبد الناصر — القوة التي كانت ترسم المجرى والخرائط معاً. لكن المرآة القديمة لم تعد تعكس شيئًا سوى الدخان.

‏منذ اندلاع الحرب في السودان، تحرّكت مصر بخفّة من يظن أنه يتحكّم في لوحة الشطرنج، بينما القطع من حوله تغيّر أشكالها. اعتقدت أنها قادرة على احتواء الخراب الجنوبي بإشارات استخباراتية ودعم محدود للجيش السوداني دون أن تتسخ يداها بالنار. لكن النيران لا تميّز بين من أشعلها ومن راقبها عن قرب.

‏في عالم اليوم، لا يمكن لدولة تعيش على حافة الإفلاس أن تخوض مغامرة استقرار لدولة أخرى تنهار. ومع ذلك، تواصل القاهرة إدارة المشهد بذات المنطق الأبوي القديم:
‏أن السودان يحتاج «توجيهاً»، وأن الفوضى يمكن إدارتها بالرموز والعلاقات. لكن الخرائط تغيّرت — والذين يزرعون الوكلاء يحصدون الخصوم. جيل الضباط الجدد الذي يتعامل مع السياسة بمنطق «المهندس الأمني» لا يدرك أن الخرائط الحقيقية لم تعد تُرسم في غرف القيادة، بل في الأسواق والحقول والموانئ التي فقدت السيطرة عليها.

‏الجيش المصري الآن يختبر معادلة مستحيلة: أن يكون حاضراً في السودان دون أن يكون هناك، وأن يوازن بين إثيوبيا والخليج دون أن يخسر أحدًا منهم. هي السياسة التي تشبه الوقوف على الجسر فيما التيار يشتدّ من تحته. كل خطوة صغيرة تُغرق الجسد أكثر، وكل تبرير «مؤقت» يتحوّل إلى عادة خوف.

‏من المفارقات أن القاهرة التي لطالما حذّرت من الفوضى، صارت تقتات عليها لتبرير تحركاتها. كل شيء باسم الأمن القومي، حتى حين يصبح الأمن القومي ذاته هو أول من يُستنزف.
‏لكن حين يصبح الأمن ذريعة لكل فعل، يفقد معناه الأصلي. تلك هي مفارقة الدولة التي ترى في السيطرة خلاصاً، وفي التراجع هزيمة، بينما الحيلة الحقيقية — في زمن السيولة — هي أن تعرف متى تنسحب بذكاء قبل أن تُسحب قسراً.

‏التاريخ القريب يقول: من يتورّط في السودان لا يخرج منه سليماً. البريطانيون خرجوا منه وهم يترنّحون، والاتحاد السوفييتي اكتفى بالمراقبة، والعرب كلّهم علقوا في رماله السياسية المتحرّكة. اليوم، يقترب الدور المصري من تكرار القصة نفسها — ولكن بأدوات أقلّ وبنية داخلية أضعف.

‏تبدو القاهرة الآن كمن يشعل عود ثقاب على فوهة خزان وقود ويصرّ أنه «يسيطر على اللهب». لكنّ الجغرافيا لا تُساوم، والمصالح لا ترحم.حين يتحوّل العمق إلى فخّ، لا ينفع الخطاب ولا التبرير.

‏ربما لا تحتاج مصر إلى عدو خارجي، بقدر ما تحتاج إلى وقفة صادقة أمام مرآتها المتصدّعة. فالذين يظنّون أنهم يحكمون بالنار، ينتهون بابتلاعها.

إرسال التعليق

لقد فاتك