حسن علي سنهوري : التنمية الزراعية من اجل السلام في السودان(٣) - صوت الوحدة

حسن علي سنهوري : التنمية الزراعية من اجل السلام في السودان(٣)

رؤى التنمية الزراعية في سودان ما بعد ثورة ديسمبر

1. مقدمة: وعود الثورة وتحديات القطاع الزراعي

أشعلت ثورة ديسمبر 2018 آمالاً واسعة لتحقيق تحول جذري في بنية الدولة السودانية، تحت شعارات “حرية، سلام، وعدالة”. ومع ذلك، يكشف الواقع السائد في القطاع الزراعي، الذي يُعدّ الركيزة الأساسية لمعيشة غالبية السكان، عن تناقض حاد مع هذه الوعود. يقدم هذا التحليل مقارنة نقدية للرؤى المتنافسة التي طُرحت بعد الثورة، مبرزًا استمراريتها في تبني النهج القديم الذي رسّخ الاختلالات التنموية. سيتبيّن من هذا التحليل أن الفترة الانتقالية شهدت صراعًا بين رؤى اقتصادية مختلفة في المظهر، لكنها متفقة جوهريًا على إعادة إنتاج الأزمة.

2. الرؤى المتنافسة في الفترة الانتقالية: اختلاف في الشكل واتفاق في الجوهر 

على الرغم من الانقسام الظاهري الذي شهدته الساحة السياسية بعد الثورة بين تيارين رئيسيين، يمكن وصفهما مجازاً بـ “الاشتراكي” و”الدولة التنموية الديمقراطية/ الرأسمالي”، إلا أن تحليلاً أعمق لرؤى هذين التيارين للقطاع الزراعي يكشف عن تطابق شبه كامل في الأولويات الأساسية. فكلاهما ينطلق من النظرة التقليدية التي تعتبر الزراعة مجرد أداة لتحقيق النمو الاقتصادي الكلي، مع إغفال دورها في تحقيق التنمية البشرية والعدالة الاجتماعية.

2.1. رؤية اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير: السيطرة الحكومية والتركيز على التصدير.

أولت اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير اهتمامًا كبيرًا بالصادرات الزراعية بوصفها مصدرًا رئيسيًا لإيرادات الدولة. تركزت رؤيتها على تعزيز سيطرة الدولة على هذا القطاع عبر مجموعة من الإجراءات، تشمل ما يلي: 

• تأسيس شركات مساهمة عامة: اقتراح إنشاء أربع شركات كبرى للمحاصيل الزراعية الأساسية.

• إنشاء بورصة وطنية: بهدف تمكين الدولة من الهيمنة على عرض جميع السلع المصدرة، بما فيها المنتجات الزراعية والذهب، لضمان عودة الإيرادات إلى الخزينة العامة.

• إعادة هيكلة بنوك الدولة: الدعوة إلى إعادة تأسيس البنك القومي للاستيراد والتصدير ليكون الممر الرئيسي للسودان في التجارة الدولية.

• دعم الصناعات الكبرى: التركيز على تطوير الصناعات الزراعية الكبرى من خلال توفير الدعم والتمويل اللازمين.

تكشف هذه المقترحات عن توجه اقتصادي يرى الدولة الموجه والمستفيد الوحيد من الموارد الزراعية، مما يعيد إنتاج نموذج مركزي يقدّم العائدات المالية على حساب التنمية البشرية، ويتناقض مع شعارات الثورة التي تؤكد على العدالة التي تحقق السلام.

2.2. برنامج الحكومة الانتقالية: بين خطاب التنمية والممارسة التقليدية

في المقابل، ربط رئيس وزراء الحكومة الانتقالية التنمية الزراعية ارتباطًا مباشرًا بمكافحة الفقر، وحماية حقوق الإنسان، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. إلا أن هذا الخطاب التنموي المتطور لم يُترجَم إلى تطبيق فعلي في البرنامج الثلاثي للحكومة، الذي سلك النهج التقليدي للحكومات السابقة بالتركيز على ما يلي:

• تأهيل البنى التحتية: إعطاء الأولوية في الإنفاق العام لتأهيل مشاريع الري الكبرى.

• كهربة المشاريع الزراعية: الاستمرار في التركيز على المشاريع الكبرى التي هيمنت على سياسات الدولة منذ الحقبة الاستعمارية.

نقطة الالتقاء: عند مقارنة الرؤيتين، يتضح أن هناك استمرارية في تهميش الزراعة التقليدية. فرغم الاختلافات الظاهرية في الآليات (سيطرة الدولة مقابل اقتصاد السوق)، تتفق الرؤيتان على اعتبار القطاع الزراعي محركًا اقتصاديًا يعتمد على التصدير من مناطق محددة. كلا النهجين يمنحان الأولوية للمشاريع المروية والزراعة المطرية الآلية في وسط وشرق السودان، بينما يتجاهلان تمامًا قطاع الزراعة المطرية التقليدية الذي يعتمد عليه ملايين السكان في غرب السودان، والذي يمثل بؤرة التهميش التاريخي.

هذا الإجماع المدهش على إعادة إنتاج الفشل يطرح سؤالاً ملحًا: ما هي المرجعيات الفكرية لهذه الرؤية القاصرة التي يبدو أن النخب السودانية أسيرة لها؟

المرجعيات الفكرية 

بالنسبة للجنة الاقتصادية، كان التركيز على القطاع الزراعي كمصدر أساسي للدخل القومي مدفوعًا بمنطلقات أيديولوجية بحتة. كان هذا البرنامج يهدف في الأساس إلى تجنب التعاون مع البنك الدولي، الذي اعتُبر رمزًا للرأسمالية التي تحاربها القوى الاشتراكية المهيمنة على اللجنة الاقتصادية. وسنرى في المقال القادم كيف تخلت إحدى معاقل الحكم الشيوعي (فيتنام) عن الكثير من أسس المفهوم الاشتراكي لتطوير القطاع الزراعي، وكيف تغير حجم ونوعية تعاملها مع المؤسسات الرأسمالية، بما في ذلك البنك الدولي.

أما على الصعيد الحكومي، فيظهر تناقض واضح بين خطاب رئيس مجلس الوزراء والبرنامج الاقتصادي الثلاثي، ويكمن هذا الاختلاف في المرجعية؛ فبينما يستند رئيس مجلس الوزراء إلى مفهوم الدولة التنموية الديمقراطية (مستلهمًا تجربة إثيوبيا/موريشيوس)، يهيمن التفكير الرأسمالي على الفنيين المعنيين بوضع البرنامج الثلاثي الاقتصادي، خاصة في وزارةالمالية والتخطيط الاقتصادي. ويُعد هذا التناقض بين رؤية الحكومة وأجهزة الدولة من أكبر التحديات التي واجهت الحكومة الانتقالية، مما أعاق تنفيذ العديد من البرامج..

الاختيار بين تكرار الأزمة وصناعة السلام.

يكشف هذا التحليل أن الرؤى التي هيمنت على الفترة الانتقالية في السودان، رغم اختلاف مسمياتها، لم تكن مُكرَّسة لتحقيق أهداف ثورة ديسمبر المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة. بل كانت صراعاً بين المكونات التي سيطرت على المشهد السياسي لتحقيق برامج وأهداف خاصة بها فيما يتعلق بحل الأزمة الاقتصادية. لقد تجاهلت هذه الرؤى حقيقة أن الأزمة السودانية ليست أزمة اقتصادية صرفه، بل هي في جوهرها أزمة تنمية غير متوازنة وغياب للعدالة. هذه الرؤى تعني استمراراً لنهج تاريخي فاشل أدى إلى تعميق التهميش وتغذية النزاعات.

أما الصراع الأيديولوجي والفكري، فيقودنا إلى نقطة مهمة، وهي أن القطاع الزراعي يمثل نظاماً، وهذا النظام هو جزء من نظام معقد أوسع يحكم الدولة. وللنظر إلى تنمية القطاع الزراعي من أجل السلام (التحول الزراعي) بصورة أشمل، سنستعرض تطبيق منهج التحول الزراعي في ثلاثة أنظمة متباينة: النظام الاشتراكي (فيتنام)، والنظام الليبرالي (المغرب)، ونظام الدولة التنموية الديمقراطية (إثيوبيا).

إرسال التعليق

لقد فاتك