عزيز الدودو : الدور المُعلِن والخفي لمصر في حرب السودان: من عرقلة الاتفاق الإطاري إلى دعم الفوضى.
تُثير سياسة مصر تجاه الأزمة السودانية تساؤلات عميقة حول دوافع القاهرة الحقيقية، خاصةً إصرارها الملحوظ على إبعاد المدنيين عن المشهد السياسي المستقبلي وموقفها الداعم للسلطة الإنقلابية. وفي وقت تدفع فيه قوى دولية كبرى، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، نحو إشراك القوى المدنية كضمانة وحيدة لأي تسوية مستدامة، نجد مصر ترفض هذا التوجه بشكل قاطع، مفضلةً مقاربةً تهدف إلى الحفاظ على النفوذ العسكري المُطلق. إن هذه المقاربة، التي يمكن وصفها بـ “استراتيجية الاستقرار عبر الفوضى”، تنبع من نظرة ترى في السودان المستقر، الآمن، والديمقراطي تهديداً استراتيجياً لمصالحها، بل ومصدر إلهام محتمل للشعوب المجاورة التي قد تتطلع إلى حكم مدني.
لم يكن الموقف المصري من الأزمة السودانية مجرد تحفظٍ جانبي، بل يبدو أنه كان فاعلاً محورياً في إجهاض مسيرة التحول الديمقراطي منذ بداياتها. لقد تجسد هذا الدور بوضوح في العمل على إضعاف حكومة عبدالله حمدوك المدنية، والتحول التدريجي نحو دعم التيار العسكري والإسلامي، وصولاً إلى انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي حمل بصمات مشابهة للتحولات السياسية في مصر، معيداً السلطة بالكامل إلى المؤسسة العسكرية. وقد عملت القاهرة على تأمين نفوذها من خلال دعم الانقلاب وتقديم غطاءٍ إقليمي له، مما شجع على تهميش القوى المدنية وتفتيت جبهتها، والتركيز في التعامل حصرياً مع الأطراف العسكرية، مما قلص بشكل كبير من مساحة تأثير القوى الديمقراطية.
بلغ هذا الدور ذروته في المراحل الحاسمة من صياغة الاتفاق الإطاري، الذي كان يمثل خارطة طريق لإنهاء الأزمة وتشكيل سلطة مدنية. لقد عملت القاهرة على عرقلة هذه المساعي باستغلال أطراف سياسية موالية لها، عُرفت باسم “الكتلة الديمقراطية”، والتي تضم فلول النظام البائد وقيادات مرتبطة بمصر. ومن خلال استضافة هذه الكتلة وتوجيهها، منحتها مصر منصة لإطلاق مواقف مُعادية للتسوية السياسية “الإتفاق الإطاري” . وتشير المعطيات السياسية إلى أن القاهرة أصدرت أوامر واضحة للفريق أول عبد الفتاح البرهان بالانسحاب من ورشة الإصلاح الأمني وعدم التوقيع على الإتفاق الإطاري في مراحله النهائية، بهدف تفجير العملية السياسية من الداخل وضمان عدم قيام أي سلطة مدنية قد تهدد المصالح الاستراتيجية المصرية.
إن إصرار مصر على هذا النهج ليس مجرد مسألة أمن حدودي تقليدي، بل هو استثمار في ورقة جيوسياسية تحقق لها مكاسب هائلة على حساب دماء السودانيين وتشريدهم. ففي ظل استمرار الحرب والفوضى، تضمن مصر صمت الجانب السوداني أو موقفه الداعم لها في مفاوضات سد النهضة الإثيوبي، مما يضمن لها حصتها من مياه النيل دون مقاومة سودانية حقيقية، في استراتيجية بديلة بعد فشل الخيارات الأخرى في التأثير على إثيوبيا. كما تشير التقارير إلى ارتفاع كبير وغير مبرر في صادرات الذهب المصري، رغم افتقار مصر إلى مناجم ذهب بكميات كبيرة، مما يوحي بأن الذهب السوداني المُهرَّب عبر الحدود المفتوحة أصبح مصدر دخل حيوي لاستقرار الجنيه المصري. علاوة على ذلك، أتاحت الفوضى للقاهرة فرصة لتعطيل الموانئ السودانية وتحويل التجارة الوطنية إلى الموانئ والمصانع المصرية، وربط شمال السودان الغني بالمواد الخام مباشرة بالاقتصاد المصري.
باختصار، ترى مصر في السودان الديمقراطي والمستقر خصماً محتملاً وشريكاً قوياً قد ينافسها، في حين ترى في السودان المنقسم والضعيف مادة خام للاستثمار الجيوسياسي والاقتصادي. إن سياسة القاهرة، التي أدت إلى إشعال الحرب ودعم طرف ضد آخر، دفع الشعب السوداني ثمنًا باهظًا من القتل والجوع والتشريد، كل ذلك في سبيل طموحات إقليمية تُركز على النفوذ والموارد الطبيعية على حساب مستقبل السودان وشعبه.



إرسال التعليق