النور حمد يكتب : إما استعادةُ الدولةٍ كلِّها أو لا دولة
ظللنا، نحن السودانيين، نعيش في دائرةٍ من التراجع المضطرد، منذ الاستقلال. وقد أوصلنا هذا التراجع المضطرد المتزايد باستمرار إلى هذه الحالة من الخراب الشامل، التي نعيشها اليوم. لقد مشينا في هذا المسار المأساوي، سنة أثر سنةٍ، هائمين على وجوهنا في تيهٍ مقفرٍ لفترةٍ زمنيةٍ امتدت لـ 70 عامًا، وهي فترةٌ تجاوزنا فيها تيه بني إسرائيل بـ 30 عامًا. وقد عرف أهل البصيرة منَّا ما ستؤول إليه أحوالنا، إن نحن لم ننتبه إلى ما نحن فيه من إشكالاتٍ جوهية. وقد كان على رأس هؤلاء، الأستاذ محمود محمد طه. فهو حين وقف ضد قوانين سبتمبر 1983، ودفع حياته بسخاءٍ استثنائيٍّ ثمنًا لذلك الموقف، اختار أن يجعل لمنشوره الذي أصدره في 24 ديسمبر 1984، عقب خروجه من معتقلات نميري مباشرةً، عنوانًا يقرأ: “هذا أو الطوفان”.
كان جوهر نصيحة الأستاذ محمود محمد طه أن نكف عن التلاعب بالإسلام، وبالوحدة الوطنية للبلاد. لكن الرئيس المخلوع جعفر نميري أصر على التلاعب بالإسلام وبوحدة البلاد، فذهب إلى مزبلة التاريخ. وجاءت الديمقراطية الثالثة وسارت على نفس الطريق بوقوفها عاجزةً أمام قوانين سبتمبر، فأطاح بها الإخوان المسلمون، الذين طالما كبَّلوها بالخطاب الديني فاستكانت لهم. ثم جاء الإخوان المسلمون أنفسهم إلى سدة الحكم، فأوصلوا مسار التلاعب بالإسلام وبوحدة البلاد إلى نهايته القصوى. وهكذا وصلنا إلى هذه الكارثة الماحقة التي نعيشها الآن.
قبل الاستقلال، تنبأ الإداريون البريطانيون، الذين حكموا السودان، بأن التناحر والتباغض بين طلائع متعلمينا الذين أداروا حراك الاستقلال، وعجلتهم على المناصب، وإنشابهم أطفارَهم في أجساد بعضهم، سوف يقود إلى استقلالٍ هشٍّ، ينتهي بالبلاد إلى كارثة. لكننا بدل أن ننظر إلى عيوبنا تلك التي رأوها فينا وعايشوها لقرابة الستة عقود، اخترنا أن نكابر وأن نذهب في وجهة اتهامهم بأن مطالبتنا لهم بالاستقلال وبالخروج من بلادنا أغاظتهم، وجعلتهم يثأرون لأنفسهم بإطلاق تلك النبوءات المتشائمة حول مستقبلنا. خلاصة القول، نحن نعيش الآن ما تنبأ لنا به الإداريون البريطانيون. كما نعيش، أيضًا، حالة الطوفان الذي حذَّرنا منها الأستاذ محمود محمد طه.
حالة اللادولة
أميز ما يميز الثلاثين عامًا “الإنقاذية” الكئيبة، البائسة، التي اتسمت بالعجز الفاضح عن الإنجاز وبالتخريب الممنهج لكل بنيةٍ صالحةٍ، أنها قضت على ما يمكن أن نطلق عليها اسم “دولة سودانية”. خلق الإخوان المسلمون عبر التمكين، والتجنيب، وتحويل القوى الأمنية؛ من جيشٍ، وجهازٍ للأمن، وشرطةٍ، وقضاءٍ، وغير ذلك، إلى مؤسساتٍ تجارية. خلقوا لأنفسهم دولةً خاصةً بهم، ابتلعت الدولة الموروثة من حقبة الاستعمار. وهي دولةٌ تخص عضوية تنظيمهم، حصرًا، مخولٌ لها أن تنهب ما تشاء. بل، تنوَّعت وتطوَّرت فيها أساليب النهب، وتمأسست، حتى وصف الدكتور الراحل، حسن الترابي، تلاميذه من المسؤولين فيها: “لقد أكلوا المال أكلا عجيبًا … تحت سمعي وبصري وعجزي”.
لقد حوَّل النهج الكليبتوقراطي اللصوصي الدولة إلى مستودعٍ مفتوحٍ يغرف منه النادي الحاكم وتفرعاته المختلفة. لذلك، لم ير السودانيون عائدًا ملموسًا في حياتهم ومعاشهم من حقبة البترول التي استمرت لأكثر من عشر سنين. كما لم يروا عائدًا من حقبة الذهب التي تعدت، حتى الآن، 15 عامًا. بل، لم يروا عائدًا من حصائل الصادر مما جري ويجري تصديره ونهبه من منتجاتهم الزراعية والحيوانية والغابية. هذه الدولة الإخوانية الكليبتوقراطية لها أعوانها من شبكة التجار والمهربين المتمرسين في أساليب تسريب موارد البلاد إلى الخارج. كما لها زبائنها من القوى الأمنية؛ من حرس الحدود، وضباط الجمارك، وضباط الشرطة، وضباط الأمن. تعمل كل هذه المنظومة في تآمرٍ صامتٍ وتناغمٍ، وتضامنٍ تامٍّ فيما بينها، على قاعدة: “Scratch my back, I’ll scratch yours” أي: “حُك لي ظهري، لأحكَّ لك ظهرَك”. خلاصة القول: إن هذا المسخ الهزيل المتمثل في “مهزلة بورتسودان” الانقلابية، ما هو إلا ما تبقى من أشلاء الدولة الكليبتوقراطية الإخوانية، التي لم يعرف التاريخ الحديث لها شبيها في اللصوصية والكذب والخداع والتضليل والعنف المتطاول.
استعادة الدولة المسروقة
ما ينبغي أن يقوم به تحالف تأسيس، هو عدم المساومة، على الإطلاق، في مهمة القضاء التام على كل ركائز دولة الإخوان المسلمين الموازية، وإعادة الدولة السودانية إلى حالة العافية المؤسسية، التي كانت عليها بُعِيْد الاستقلال. أي، حالة القدرة على أداء وظائفها الطبيعية. ويقتضي هذا من تحالف تأسيسعدم اصطحاب أيٍّ من الممارسات القديمة التي انتهت بالدولة إلى أن تصبح قوقعةً فارغةً فيما يلي الشعب. وتصبح، في نفس الوقت، فضاءً بلا ضوابط للاستثمارات الشخصية الداخلية وللاستثمارات الخارجية، ومنصةً لإرسال الأموال المنهوبة وإيداعها في الخارج. ولو نحن نظرنا إلى أشلاء دولة 56، التي تمثلها “مهزلة بورتسودان” المُسمَّاة حكومة، لوجدنا أن ما يجري هناك ليس سوى تحالفٍ أخطبوطيٍّ ناهبٍ، يجسِّده ضباط الجيش والأمن والشرطة، ورجال المال والأعمال، وزعماء القبائل المحيطين بهذه البنية. إضافةً إلى تجَّار الحروب المتمثِّلين في قادة القوات المشتركة. فجميع هؤلاء متوافقون على نهب موارد الدولة لأنفسهم، ولداعمهم الإقليمي المتمثل في نظام السيسي في مصر، ولجهاتٍ إقليمية أخرى.
المساومة تعني نهاية كل شيء
لقد انقسمت قوى الثورة إلى ثلاثة أقسام. قسمٌ يمثله تحالف تأسيس، وقسمٌ يمثله تحالف صمود، وقسم تمثُّله بعض الأحزاب العقائدية؛ كالحزب الشيوعي، وبعض أحزاب البعث، والناصريين. وفي تقديري أن التحالف الوازن الذي يمثل الثورة الآن هو تحالف تأسيس، وليس غيره. فتحالف صمود لم يبق فيه سوى حزب المؤتمر السوداني وبعض الاتحاديين والأجسام. الصغيرة الأخرى. فثقل حزب الأمة، فيما أرى، قد ذهب إلى تحالف تأسيس، مع السيد برمة ناصر. كما ذهب شقٌّ وازنٌ من الاتحاديين إلى تحالف تأسيس. وكلُّ وزنٍ تبقَّى في هذا التحالف إنما يعود إلى شخصية الدكتور عبد الله حمدوك، ورمزيته المتمثلة في رئاسته لحكومة الثورة التي أطيح بها. هذا إلى جانب وزنه على المستوى الدولي والإقليمي. فلو خرج حمدوك من هذا التحالف، لأي سببٍ، فإنه سيتقزم بصورةٍ كبيرة. وعلى الرغم من وجود حمدوك فيه ،الآن، فإن وزنه أصبح ضعيفًا.
إلى جانب ما تقدم، لا يخلو تحالف صمود، من وجهة نظري، من اختراقٍ مصريٍّ عميقٍ، هدفه أن تجر قواه المحتواةُ مصريًّا التحالف إلى وضعٍ متوافقٍ مع مخطط مصر لهندسة المرحلة المقبلة في السودان. تتمثل خطة النظام المصري في جر تحالف صمود للتفاوض مع البرهان والإخوان المسلمين. يُضاف إلأى ذلك، إغراق الحصيلة بالقوى المسماة “الكتلة الديمقراطية”، التي لا تعيش ولا تتنفس إلا في أجواء الحالة الكليبتوقراطية القائمة التي امتدت لثلاثة عقودٍ ونصف. تريد مصر ديكورًا من القوى المدنية يحيط بالفريق البرهان، لتبقى الأحوال على ما هي عليه فيما يتعلق بنهب موارد السودان، وحصر السودان في لعب دور المستودع المصري للمواد الأولية الرخيصة، بل والمجانية. إلى جانب ذلك، حصر السودان في التبعية لمصر، فيما يتعلق بملف مياه النيل، ووضع السودان في حالة عداء مع الجارة إثيوبيا. باختصار، الهدف المصري هو جعل البرهان، أو من يماثله في المواصفات، محافظًا لمحافظةٍ مصريةٍ جديدةٍ إسمها السودان. يحيط بهذا المحافظ الدُّمية ديكورٌ مدنيٌّ، لإضفاء مسحةٍ من الشرعية على المشهد. ولا أعني هنا أن كل تحالف صمود منصاعٌ لهذه الخطة، وإنما أعني أن مكونات تحالف صمود لا تخلو من تنافرٍ في الرؤى، يسهم في إضعافه أكثر مما هو عليه من ضعف. ولعل بيان تحالف صمود الأخير، الذي طالب فيه بإعلان “المؤتمر الوطني” منظمةً إرهابيةٍ، وليس “الحركة الإسلامية”، يمثل أحد علامات الاستعداد لقبول الصيغةٍ المصرية الهشة للحل. أما الحزب الشيوعي رافع شعار الجذرية فقد انتهى به التخبُّط إلى أن تقوم قيادته بزيارةٍ لمسؤول إخوانيٍّ/برهانيٍّ، بحجة خدمة مواطني مدينة عطبرة. وتلك متاجرةٌ سياسيةٌ غثَّةٌ فجَّةٌ، من أجل كسب ود الجماهير، وتأكيد الوقوف مع جيشٍ قاتلٍ، سارقٍ، وناهب. ولا بد أنها أسعدت وكلاء البرهان في عطبرة سعادةً غامرة.
فزاعة الانفصال
باختصارٍ شديد، تحالف تأسيس هو الفرصة الوحيدة المتبقية لاستعادة الدولة السودانية، المسروقة من أهلها منذ 36 عاما، ولإنهاء حالة اللادولة، التي ظلننا نعيشها منذ 36 عاما. ومن يقرأ كل إعلانات تحالف تأسيس، فإنه لن يجد فيها أي توجهٍ لفصل السودان الغربي عن الدولة الأم. بل، إن الذين يريدون الانفصال هم الإخوان المسلمون، الذين عملوا له منذ أن أعلن المرحوم عبد الرحيم حمدي عن مثلثه. ومنذ أن دعا على كرتي مصر لتمارس استعمارًا استيطانيًا في الجزء الشمالي من البلاد. ومنذ أن ذبح المرحوم الطيب مصطفى ثورًا أسودًا احتفاء بفصل الجنوب. ومنذ أن قال المخلوع عمر البشير إن فصل الجنوب سيعود بالخير والبركة على البلاد.
لقد قام الفريق البرهان وزمرته بفصل غرب السودان حين جعلوه، على كبر مساحته، عن قصدٍ وعمدٍ، فضاءً بلا حكومة. غيَّبوا عنه الإدارة، وغيبوا الشرطة، والقضاء، والتعليم، والصحة، ومنعوا عنه قوافل العون الإنساني. باختصار، غاب عن غرب السودان كل ما ينبغي أن تقوم به الحكومة تجاه شعبها. لذلك، سيكون هناك انفصالٌ إدرايٌّ مؤقتٌ، يجري خلاله استكمال الاستعدادت اللازمة للتخلص من أشلاء الدولة الكليبتوقراطية الإخوانية، في كامل التراب السوداني. وهو مسارٌ سأفصِّل في الطريقة التي ينبغي أن يجري وفقها، في المقال القادم.
إرسال التعليق