إبراهيم خاطر يكتب : دعاوي الوطنية الجوفاء(١)
إنطلاقاً من المنظور التاريخي لممارسة السلطة في السودان؛ تشير كل الإمكانيات التي توفرت في الظروف التاريخية لفترة ما بعد الإستعمار، أنها كانت تجارب مأساوية وبائسة؛ قياساً علي المفاهيم المفتاحية لممارسة أية سلطة علي وجه الأرض. تلك المفاهيم هي: (التفويض، التحرر/الإنعتاق، والعدالة بمعناها الإنصافي). وعند ربط ذلك بالأساس الإجتماعي للتكوينات (القبلية/الإثنية/ الثقافية) المُختلفة والمُتباينة من جانب، والتراتبيات “الطبقية/الفئوية” المُعاد إنتاجها في السيرورة التاريخية لتخَلُق الدولة لتتماشي مع الشكل الحديث وتخدم علاقات السيطرة فيه لصالح جماعات بعينها وإعادة إنتاجها كصاحبة إمتياز أعلي من جانب آخر. يتكشف الأمر بجلاء لكل صاحب بصيرة وفقاً للمقدمات أو الوقائع التالية.
أولاً/ طبيعة الدولة الإستعمارية: الدولة السودانية الراهنة هي دولة ما بعد إستعمارية نتجت عن تطور العلاقات الإجتماعية بين المُستعمِر (Colonizer) وهو الطرف الغازى، و المُستعمَر (Colonized) الطرف الداخلي المتعاون مع الإستعمار “الكمبرادور السوداني” وتَوَلَّدْ من تلك العلاقة الجدلية تاريخياً منذ العام 1821م الي العام 1956م، بإستثناء الدولة الوطنية “المهدية”؛ توَلَّدْ هذا الشكل المشوه الراهن للدولة كمفهوم.
هذا الشكل أسماه البعض بمسميات مختلفة (السودان القديم، دولة 56، دولة الجلابة، …الخ) بإعتبارها وضعية مأزومة لا تقوم العلاقات فيها بين الحاكم والمحكوم علي أسس صحيحة؛ وهذا أمر طبيعي لأنها دولة مؤسسات إستعمارية والبديهي أن تقوم علي أسس التبعية والإستغلال المادي والمعنوي لرعاياها وليس مواطنيها. ولذك كانت كل سياساتها قائمة علي إخضاع الشعوب السودانية عبر السياسات الإستعمارية وأهمها سياسة “فَرِّقْ تَسُدْ – Divide &Rule” بغرض إحكام السيطرة “تكبيل المجتمعات المحلية” وقطع مراحل تطورها الطبيعي والمُكتسب؛ بإتجاه خلق أُفق “إداري” إجتماعي إقتصادي وسياسي يتفنن في إدارة تنوعها عبر إستبصاراتها الذاتية. ونتيجة لتلك الوظيفة المشوهة للدولة تولَد إجماع شعبي غاضب بضرورة مواجهتها وإعادة الأمور إلي نصابها الطبيعي بالتوافق علي عقد إجتماعي جديد لتأسيسها (وهو الفعل الثوري).
ثانياً/ غياب المرجعية الدستورية: المرجعية الدستورية الوحيدة لتلك الدولة المنهارة حالياً كانت نتاج فعل إستعماري هو قانون الحُكم الذاتي لسنة 1953م، الذي أعده “ستانلي بيكر” والذي أصبح دستوراً مُعدلاً للسودان المُستقل في 1956م، ودستوراً مؤقتاً لسنة 1964، معدل لسنة 1965، وتعديلاته اللاحقة إلي 1985م، أي كل فترات الحكم التي أعقبت الإستعمار والثورتين أكتوبر 1964 وأبريل 1985 فيما سُمي بالفترات الديمقراطية كانت تستمد شرعيتها الدستورية من ذلك القانون (وصدق د. منصور خالد في وصفه للنخبة السودانية بإدمان الفشل) وما تخلل تلك المحاولات اليائسة من فرض دين محدد علي الدولة المتنوعة دينياً “ملابسات فرض الدستور الإسلامي بعد ثورة 1964”.
ولم يخرج عن دائرة ذلك العُرف سوي دستورين هما (دستور السودان الدائم لسنة 1973م في عهد نميري، ودستور التوالي السياسي في 1998م في عهد البشير). وهذين الدستورين هما نتاج لحكم شمولي ديكتاتوري ينظر إلي مفاهيم “الحرية، العدالة، المساواة، الوحدة الطوعية والديمقراطية – القضايا الوطنية الكبري” علي أنها مهددات جوهرية لبقاء النظام.
أما الدستور الوحديد الذي خرج عن العُرف السائد وارتبط بنيوياً بمخاطبة جذور المشكلة في السودان ومعالجتها علي نحو مُرضي لجميع الأطراف الفاعلة سياسياً؛ هو الدستور القومي الإنتقالي لسنة 2005م، الذي كانت مرجعيته إتفاقية السلام الشامل الموقعة في 9يناير2005م بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة الأمر الواقع حينئذٍ.
إذن؛
تلك الدولة التي نتحدث عنها من حيث شروط بنيتها وهياكلها المؤسسية ومرجعياتها القانونية الدستورية؛ تفتقر إلي أهم الشروط التي قامت عليها الدولة الوطنية الحديثة من حيث مرجعياتها: التاريخية، الفلسفية/الفكرية، الإجتماعية، والعلمية؛ أهمها مفهومي “المواطنة” و “الدولة الوطنية – Nation State”.
خلاصة؛
إعمال النقد بوصفه وسيلة لإنتاج المعرفة وإعادة إنتاج المزيد منها يفتح شروط العقلانية من ظرفية محددة إلي أخري ومعالجة المقدمات أو الوقائع المعطاه في سياق التجربة الإنسانية، ويُعتبر نقد تلك الوضعية موقف مبدئي لكل تيارات التغيير في السودان، وعلي رأسها تحالف السودان التأسيسي، وفتح المآلات بإتجاه إمكانية جديدة أكثر عقلانية لصياغة كيان إجتماعي إقتصادي جديد في إطار مؤسساتي دينامي فاعل، تتخلق داخله إمكانية انبثاق دولة جديدة من رحم المعاناة والبؤس بكل شروط بنيتها العصرية وقادرة علي مخاطبة إشكالات الواقع المتجددة والمتطورة بتجدد وتطور الدوافع والحاجات البشرية – الإنسانية.
من المنطلقات أعلاه؛ نصل إلي نتيجة منطقية من حيث أساسها الفكري/ الفلسفي، والإجتماعي/التاريخي، وهي: أن حكومة تأسيس الوليدة تُعتبر أول حكومة تستوفي شروط الوطنية في السودان منذ خروج المستعمر؛ ولا يعوزنا دليل أو برهان في إثبات ذلك. لأن هذه الحكومة تمثل نقلة نوعية خارج أزمات الماضي المتأصلة وممثل شرعي لخلاصة كفاح التحرر الوطني من سيطرة طقمة المركزية الإستعمارية بكمبرادوراتها وفلاقنتها، وقائمة علي الأسس والشروط البنيوية التي قامت عليها الدولة الحديثة بشكل عام؛ وأهم تلك الأسس والشروط هي: الإرادة الشعبية المفوضة للكيانات التي تمثل تحالف السودان التأسيسي عبر تفاهمات ومواثيق مكتوبة (ميثاق السودان التأسيسي) و (الدستور القومي الإنتقالي لسنة 2025م).
نواصل …
إرسال التعليق