كاربينو يكتب : نيالا تُعيد تعريف السودان من الاستقلال الأول إلى الاستقلال العادل
تاريخ السودان يعيد نفسه في لحظة فارقة ، حيث أعلن عن تشكيل حكومة جديدة برئاسة القائد محمد حمدان دقلو ، وهو حدث غير مسبوق في تاريخ البلاد ، لأول مرة منذ استقلال السودان يتم الإعلان عن حكومة يقودها شخص من الهامش ، من قلب دارفور ، ليشكل ذلك بداية عهد جديد تشهد فيه البلاد تحولًا عميقاً ، يُعيد كتابة معادلة السلطة والهوية والمشاركة ، هذه اللحظة ليست مجرد انتقال سياسي ، بل هي انعطافة وجودية في الوعي الجمعي السوداني ، لحظة تقف عندها الذاكرة الوطنية لتلتقط أنفاسها ، وتدرك أنها بصدد التأسيس لميلاد سودان جديد.
إن هذا الحدث لم ينبثق من فراغ ، بل هو تتويج لمسار طويل من المقاومة والمعاناة والصبر والصمود ، حيث ظلت قوى الهامش والمهمشين تُناضل في صمت ، وتُقصى في العلن ، ويُستغل صوتها ثم يُسكت ، واليوم وباسم الذين دفعوا الثمن ، الذين دُمرت قراهم ، وأُهينت كراماتهم ، وفُصلوا من وظائفهم ، وهاجروا مرغمين ، تخرج حكومة مختلفة ، حكومة تستمد شرعيتها من المعاناة ، لا من الصالونات ، ومن قعر المجتمع ، لا من سطوحه.
إن اختيار القائد محمد حمدان دقلو رئيساً للمجلس الرئاسي ، ونائبه عبد العزيز الحلو ، لا يمثل مجرد توازنات سياسية ، بل هو تعبير عن انكسار جدار المركز الذي ظل يحكم السودان لعقود طويلة بالنيابة عن الجميع ، إنها لحظة انعتاق من جغرافيا الإقصاء إلى فضاء التمثيل الحقيقي ، لحظة إعلان نهاية عهد النخب المركزية التي احتكرت الدولة ، وافتتحت مرحلة جديدة تعود فيها الدولة إلى وظيفتها الأصلية خدمة الإنسان لا حكمه.
ما يزيد من عمق هذه اللحظة أنها خرجت من نيالا ، المدينة التي ظلت لسنوات طويلة نموذجاً للتهميش والنسيان ، لكنها اليوم تضع بصمتها مجدداً في مفصل من مفاصل التاريخ ، كما قدمت نيالا الزعيم الراحل عبد الرحمن دبكة أحد رواد اقتراح الاستقلال في 19 ديسمبر 1955 ، ها هي تعود اليوم لتمنح السودان استقلالاً آخر في 26 يوليو 2025 ، استقلالاً لا من استعمار خارجي ، بل من استعمار داخلي ظل يُكرس لطبقة سياسية واقتصادية لا ترى في الآخرين شركاء بل أدوات.
في هذه اللحظة التاريخية لا يُمكن اختزال الحدث في كونه صعوداً لأبناء دارفور فحسب ، بل هو ارتقاء لكل المهمشين في السودان ، من كسلا إلى الفاشر ، من الدمازين إلى دنقلا ، من كادوقلي إلى بورتسودان ، ومن الأبيض إلى القضارف ، إنها حكومة تنبع من عمق التنوع السوداني لا تُقصي أحداً ولا تُعيد إنتاج نخبة جديدة ، بل تنفتح على كل القوميات واللهجات والثقافات ، هذا الحضور الواسع لأبناء السودان من كل الأقاليم في صُلب السلطة يعكس تحولاً جذرياً في بنية الدولة ، دولة لم تعُد حكراً على المركز ، بل صارت مِلكاً لكل قاطنيها ، تستمد شرعيتها من آلامهم وتطلعاتهم ، وتمنحهم للمرة الأولى حق تشكيل مستقبلهم بأيديهم.
رمزية انتماء الرئيس محمد حمدان دقلو وهو من بيئة رعوية بسيطة ، تتجاوز الشخص لتُعبر عن ملايين السودانيين الذين ظلوا مهمشين ومحرومين ، لكنها لا تحمل طابعاً جغرافياً ضيقاً ، بل تمثل رمزاً لكل من نُبذ على أساس طبقته أو قبيلته أو لغته أو إقليمه ، فحميدتي لم يأت من بوابة الصفوة بل من واقع السوداني العادي ، ابن السوق والفريق والحقل ، وهذا يجعله أقرب إلى وجدان الناس من أي قائد سبق ، وفي ذات الاتجاه ، فإن وجود عبد العزيز الحلو بجانبه يُكرس لفكرة أن القوة السياسية الجديدة في السودان تُبنى على توازن نضالي ، لا على محاصصة جهوية فالرجلان قدما من ميادين المقاومة لا من كواليس المكاتب.
إن تلاقي الحلو وحميدتي على رأس الدولة ليس اندماجاً بين قوتين مسلحتين فحسب ، بل هو لحظة نادرة يلتقي فيها من حملوا السلاح من أجل الكرامة مع من قرروا تحويل هذه القوة إلى مشروع سياسي جامع ، وهذا هو المأمول أن تتحول البنادق إلى ضمانة لاستخدام السلطة لا أداة للاستحواذ عليها ، وأن تتحول الحركات إلى أحزاب ، والمقاتلون إلى صُناع قرار.
أما اللحظة نفسها لحظة 26 يوليو 2025 ، فهي ليست لحظة حكومة جديدة بل لحظة تعريف جديد للوطن ، لحظة تعيد بناء الإجابة عن سؤال من هو السوداني؟ من يملك حق أن يحكم؟ ومن يُمثل من؟ وهي إجابة لم تعد تُكتب بالحبر ، بل تُنحت بالتضحيات ، وبالمصالحة مع الذات ، وبالجرأة على الاعتراف بأن السودان القديم قد مات ، وأن السودان الجديد يولد من رماد المدن المنكوبة ، وأحلام النساء المغتصبات ، وأصوات الذين لم تكتب أسماؤهم يوماً في الصحف ، لكنهم وحدهم كتبوا التاريخ بدمهم.
وإن هذه الحكومة التي وُصفت بأنها حكومة الجميع ، ليست مجرد تعبير لغوي ، بل هي مشروع أخلاقي وسياسي في آنٍ واحد ، مشروع يضع على عاتقه استرداد الدولة من النخب ، ويعيد بناءها على أسس العدالة ، والمشاركة ، والانفتاح ، والتنوع إنها حكومة المقهورين ، الذين عاشوا على الهامش ، وآن لهم أن يتقدموا إلى قلب المشهد ، ليس لينتقموا ، بل ليُصلحوا ، وليعيدوا لسودانهم المختطف القدرة على التنفس بحرية.
من قلب هذه اللحظة ومن عمق هذا التحول ، يبدو أن السودان أمام فرصة تاريخية نادرة، قد لا تتكرر ، فرصة لبناء وطن لا يخجل من تنوعه ، ولا يخاف من ماضيه، ولا يرتهن لمستقبله ، بل يصنعه بإرادة أبنائه جميعهم من دون استثناء ، وطن يتسع للجميع ، ويرفع في وجه الظلم راية الحقيقة ، ويعيد للمقهورين ثقتهم بأنهم ليسوا مجرد أرقام في تقارير المنظمات ، بل صُناع وطن ، قادةُ مصير
إرسال التعليق