كاربينو يكتب :عهد العودة غرب دارفور تتعافى وتكتب فصلها المدني من جديد
في غرب دارفور حيث اختُبرت قدرة المجتمعات على البقاء وسط النكبات، تنبعث اليوم روح جديدة تحمل ملامح الرجاء والمستقبل ، وتؤكد أن الإنسان حين يتسلح بالإرادة الجمعية، يمكنه أن ينتصر على الموت نفسه ، لم تكن التجربة المدنية التي بدأت في الولاية مجرد هيكل إداري بديل لفراغ السلطة، بل كانت انبعاثاً وجدانياً وتاريخياً عميقاً لقيم العيش المشترك ، ومصالحة شجاعة مع الجراح ، وإعلاناً جماعياً أن لا سبيل للبقاء سوى بتجاوز القبلية الضيقة والجهوية المحنطة.
لقد مرت غرب دارفور بنكبتين متتاليتين ، الأولى حين اشتعلت الفتن القبلية بتحريض وتخطيط الأجهزة الأمنية المرتبطة ببنية النخبة المركزية ، تلك التي رأت في الانقسام أداة للسيطرة وفي الدم سلعة للنفوذ، والثانية في أتون حرب 15 أبريل حين تهدمت المؤسسات، وتبعثرت المجتمعات، وخيم الخوف في الوجدان الجمعي ، لكن الولاية التي أنهكها اللهيب نهضت على أطلال الألم بإصرار نادر، ورفضت أن تظل رهينة لذاكرة الخراب، فكان ميلاد عهد الإدارة المدنية بمثابة إعلان سيادي من الشعب لنفسه، لا انتظاراً لمركز ولا تبعية لوصاية.
ما حدث في غرب دارفور ليس مجرّد إعادة خدمات، بل ثورة وعي حقيقية ، فالمجتمعات التي خرجت من رماد النكبات توحدت لأول مرة في وجه مصيرها المشترك ، نبذت ثقافة الثأر ، وأدركت أن لا أحد سينقذها إن لم تنقذ نفسها ، وأن الكرامة لا تتحقق إلا حين تتحرر الإرادة من تراتبية العرق والقبيلة ، نحو أفق إنساني جامع ، أصبح مشهد الأسواق المفتوحة، واللقاءات المجتمعية العابرة للانتماءات، ومجالس الإدارة المدنية المختارة شعبياً، هو التعبير الأصدق عن هذا التحول.
لقد انتصرت في غرب دارفور القيم على السلاح، والضمير على الرصاص، والمجتمع على النزاع، فبينما فشلت الاتفاقيات المركزية والجيوش النظامية في إنتاج سلام حقيقي، نجحت الإدارة المدنية، المنبثقة من رحم المعاناة، في فرض منطقها الأخلاقي والعملي على الجميع، لأنها لم تكن واجهة سياسية، بل وجداناً شعبياً يعبر عن الحاجة المشتركة للحياة ، لم تكن جهة محايدة، بل جهة جامعة، تجاوزت الاصطفاف القبلي، واحتضنت الجميع بوصفهم مواطنين لا مكونات ، لقد أصبحت هذه التجربة حاضنة وطنية، لا فقط لحل أزمات الغرب، بل كنموذج لما يمكن أن يكون عليه السودان إذا ما أُعيد بناؤه من القاعدة لا من فوق، من المجتمع لا من نخبه المأزومة ، وفي هذا التحول كانت المرأة في غرب دارفور مقياساً حاسماً لتعافي المجتمع؛ فقد خرجت من دائرة الضحية إلى دائرة الفاعل، لتقود مبادرات المصالحة، وتعيد بناء العلاقات، وتتصدر مشهد الحياة اليومية، في السوق، وفي التعليم، وفي ساحات الفعل المجتمعي ، لم تعد شاهدة على الألم فحسب، بل صارت شاهدة على الميلاد الجديد، لتبرهن أن نهضة المجتمعات تبدأ حين تستعيد النساء أدوارهن في حضن الحياة لا في ظل الخسارات.
في هذا المناخ الجديد عاد عهد كرشوم لا كاسم إداري فحسب، بل كعنوان رمزي لميلاد ثقة جديدة، وبهجة استعادة الحياة ، بريق المدينة لم يعد في واجهات المباني ولا في أعلام المناسبات، بل في روح الناس، في ضحكة طفل يلعب في حي تعافت فيه الذاكرة، وفي امرأة تزرع أملاً في ساحة سوق، وفي شيخ قبيلة يمد يده لخصمه بالأمس ليكون شريكه في الغد.
لقد أسقطت تجربة الإدارة المدنية في غرب دارفور رهانات المركز، وكشفت زيف النخبة التي كانت تراهن على تمزيق النسيج الأهلي وتفتيت المجتمعات، وأثبتت أن الحلول لا تهبط من فوق، بل تنبت من الأرض حين تتشبع بالإرادة الجمعية ، هذه ليست مجرد إدارة، بل حالة سياسية واجتماعية أخلاقية بامتياز، يمكن أن تكون نواةً لتأسيس عقد اجتماعي جديد، يقود السودان كله إلى مصالحة مع الذات ومع المستقبل.
في غرب دارفور كتب الناس بأنفسهم دستور العافية، وأثبتوا أن الذاكرة يمكن أن تتعافى حين يتحرر العقل من أسر الماضي، وأن الأمم لا تُبنى على الدم، بل على العفو، ولا تتقدم بالثأر، بل بالصفح ، غرب دارفور ليست فقط تتعافى، بل تُعافي السودان كله، وتقول له الوطن ممكن حين يصبح الجميع شركاء في المصير، لا خصومًا في ميراث الخبث
إرسال التعليق