محمد الحبيب يونس : الفيتوري شاعر الثورة والحب الصوفي.. - صوت الوحدة

محمد الحبيب يونس : الفيتوري شاعر الثورة والحب الصوفي..

ولد محمد مفتاح رجب الفيتوري في مدينة الجنينة ولاية غرب دارفور في بيئة صوفية من تلك المكونات التي لها وجود في السودان وليبيا وهذا ما يفسر امتداد أسرته داخل ليبيا وهذا أمر طبيعي بالنسبة للقبائل التي تقطن في الحدود وهذا التداخل هو ما سهل له مكوثه في ليبيا بعد أن سلبت منه الحكومة السودانية جنسيته لأسباب سياسية.
حفظ الفيتوري القرآن في صغره وتلقى العلوم الدينية وما يتعلق بالمعارف الصوفية وعلوم اللغة ثم التحق بالأزهر الشريف لإكمال المرحلة التعليمية.
عمل محررا لعدد من الصحف السودانية والمصرية وعين خبيرًا للإعلام بجامعة الدول العربية ومستشارًا ثقافيًا في ليبيا .

تجليات الثورة في شعره

عرف شعر الفيتوري بالثورة والنضال ضد الظلم، فكانت أعماله الأولى صوتا لأفريقيا وما تعرض له الإنسان الأسود من اضطهاد واستبداد عبر العصور، إذ يقول معبرا عن تجاوز السود لعصور القهر والاستبداد وثورتهم عليه مخاطبا أخاه الإنسان في كل مكان وزمان ومعلنًا نهاية عهد العبودية بالثورة وتمزيق كل أشكال الاستبداد والاضطهاد :

يا أخي في الشرق، في كل سكنْ
يا أخي في الأرض، في كل وطنْ
أنا أدعوكَ .. فهل تعرفني؟
يا أخاً أعرفه .. رغم المحنْ
إنني مزّقتُ أكفانَ الدجى
إنني هدّمتُ جدران الوهنْ
لم أعد مقبرةً تحكي البلى
لم أعد ساقيةً تبكي الدمنْ
لم أعد عبدَ قيودي
لم أعد عبدَ ماضٍ هرمٍ
عبدَ وثنْ…
إن نكن سرنا على الشوك سنينا
ولقينا من أذاه مالقينا
إن نكن بتنا عراة جائعينا
أو نكن عشنا حفاة بائسينا
إن يكن سخرنا جلادنا
فبنينا لأمانينا سجونا
فلقد ثرنا على أنفسنا
ومحونا وصمة الذلة فينا

فهنا خرج الأسود من سجونه إلى فضاء الحرية متجاوزا سنينا من القهر والظلم والذل..

الفيتوري هو صوت السود في الأدب العربي المعاصر فإن كان عنترة أول صوت عربي تغنى بمآسي الأسود وعنصرية المجتمع وتهميشه وظلمه إياها فإن الفيتوري من أهم من أعلى
صوت الأسود في العصر المعاصر وجاهر مفتخرًا بسواده وكسر كل القيود والسلاسل معلنا بذلك حريته وحرية إفريقيا:

أنا زنجي
قلها لا تجبن
قلها في وجه البشريةْ
أنا زنجيٌّ
وأبي زنجيُّ الجدِّ
وأمي زنجيةْ
أنا أسود
أسود لكني حر أمتلك الحريةْ
أرضي إفريقية
عاشت أرضي
عاشت إفريقية

ثورة الفيتوري لم تكن محصورة فقط في قضايا السود وإفريقيا بل كانت ثورته تهتم بالإنسان ككل أينما ما كان فلم يُنسِه دفاعه عن زنجيته دفاعه عن عروبته، فكانت القضية العربية المعاصرة نصب عينيه لا سيما قضية فلسطين ومن ذلك وصفه لطفل فلسطين ومقاومته للاحتلال بالحجارة وخذلانه من الوطن العربي ورجال الدين يقول:

ليس طفلاً وحجارة
ليس طفلاً، ذلك الخارجُ
من قُبَّعَةِ الحاخام
من قوس الهزائمْ
ليسَ طفلاً وتمائمْ
إنه العدلُ الذي يكبرُ في صمت الجرائمْ
إنه التاريخُ مسقوفاً بأزهار الجماجمْ
إنه روحُ فلسطينَ المُقاوِمْ
إنه الأرض التي لم تَخُنِ الأرضَ
وخانتها الطرابيشُ..
وخانتها العمائمْ..
إنهُ الحقُّ الذي لم يَخُنِ الحقَّ
وخانتهُ الحكوماتُ
وخانتهُ المحاكمْ

فنفي الطفولة عن طفل فلسطين هنا فرضتها الحرب التي جعلته يقاوم المجنزرات والمدرعات بالحجارة .. وخروجه من قبعة الحاخام انزياح يجسد تمرد الطفل على المؤامرات اليهودية التي يصوغها الدين اليهودي ورفضه لذلك الواقع الذي أرادت العقلية الإسرائيلية فرضه على فلسطين ..
ليس طفلا من ولد في لحظة تاريخية دموية، ووجد التاريخ مسقوفًا بالجماجم وهذا مؤشر على وحشية اللحظة وكثرة الموت فيها وسط صمت العمائم العربية التي ترمز لرجال الدين والحكومة وتواطؤ لقانون.

الفيتوري شاعر قوي حتى في لحظة الانتكاسات الكبرى، فرؤيته الثورية لا تبرز في ثياب الضعف والبكائيات بل دائما ما تراها مجسدة القوة والكفاح والمثابرة حتى في أضعف حالات الأمة ومن ذلك ما كتبه بعد هزيمة مصر في عهد عبدالناصر:

ليبق كل بطل مكانهْ
ولتخرس الرجعيةُ الجبانةْ
فالشعب سوف يغسل الإهانةْ

هكذا دائما شعره متفائل يحث الأمة للتقدم وعدم التراجع برغم ما تعانيه في كسور وجراح .

حارب الفيتوري الظلم وهاجم رموزه محطما أصنامه القديمة والحديثة، فثم أصنام تاريخية ظل يحطمها شاعرُنا باستمرار لا سيما العهد المملوكي، وهناك أصنام عصرية حاربها الفيتوري وحاول تعريتها وكشف خواءها للناس ومن أهم تلك الأصنام الديكتاتورية، إذ يقول في رثاء عبد الخالق محجوب الذي أعدمه الرئيس جعفر نميري :

كل الطغاة دمى
ربما حسب الصنمُ الدميةُ المستبدةُ
وهو يعلق أوسمةَ الموت
فوق صدور الرجال
أنه بطل ما يزال .
فهنا يصور لنا الشاعر الطاغية في هيئة دمية وصنم حتى يجسد خواءه من القيم الإنسانية..وكذلك يعري شخصيته واضطرابه النفسي وطريقة تفكيره التي تجعله يرى نفسه بطلا حين يقتل الرجال.

كان الفيتوري ضد الصمت ويرى أن النضال وإن كان كلاما سيؤدي إلى نهاية الطاغية، فيصوّر صوت المناضل كالمشنقة بالنسبة للطاغية إذ يقول:

لا تحفروا لي قبرا…
إن صوتي مشنقة للطغاة جميعا.

التصوف والحب الإلهي

تظهر في قصائد الفيتوري المعاني الصوفية وعاطفة المتصوف وبحثه الدائم عن المحبوب، ومن الملفت للإنتباه حقا أن الفيتوري جعل من الشعر الصوفي أحيانا أداةً للثورته ضد الطغاة أو مزج بين التصوف والثورة في شعرية فريدة يقول:

تاج السلطان الغاشم تفاحةْ
تتأرجح أعلى سارية الساحةْ
تاج الصوفي يضيء على سجادة
قشْ
صدقني يا ياقوت العرشْ
أن الموتى ليسوا هم
هاتيك الموتى
والراحة ليست هاتيك الراحةْ

تبدأ القصيدة بمفارقة شعرية تقابل بين الغنى المادي والغنى الروحي، يتجلى ذلك في الثنائية الضدية بين التاج السلطان وسجادة القش. فالظاهر يدل أن صاحب التاج أغنى من الصوفي صاحب السجادة، ولكن الحقيقة عكس ذلك لأن الشاعر قد اختزل مجد السلطان وتاجه في الخطيئة التي ترمز لها تفاحة لذلك لا يضيء تاج السلطان لأنه مصنوع من ظلمات وفساد.. عكس التاج الرمزي الذي يملكه الصوفي فهو يضيء على سجادة قش، فالضوء هنا نابع من العبادة والمعارف الصوفية..
ومن أشكال الثورة هنا استدعائه لشخصية ياقوت العرش الذي كان مملوكا أسودا، فهذا الاستدعاء للون الأسود والعبودية يحمل في لاوعيه تاريخَ المعاناة والنضال الذي قام به السود لأجل الحرية..
وينفي الفيتوري الموت عن الموتى الحقيقيين حيث يتضمن كلامه وجود. موتى أحياء وهم من ماتت فيهم القيم والأخلاق الإنسانية. ويقول ذات الشيء عن الراحة فهناك راحة ظاهرية زائفة وهناك راحة حقيقية لا تجسدها المادة.

ومن قصائده الصوفية قصيدته معزوفة لدرويش متجول التي يصور فيها أشواقه للمحبوب ومعاناة روحه وإشراقها وسموها وكل تقلباتها في حب محبوبها يقول:

شحُبت روحي
صارت شفقًا
شعت غيما وسنا
كالدرويش المتعلق
في قدمي مولاه أنا

وفي لمحات سريعة يجسد لحظات تجليات كبرى لأناه موحيًا بأن أناه ليست أنا محدودة إنما هي امتداد للمطلق

غيري أعمى مهما أصغى لن يبصرني
فأنا جسد شجر
شيء عبر الشارع
جذر غرقى في قاع البحر
حريق في الزمن الضائع
قنديل زيتيٌ مبهوت
في أقصى بيت في بيروت
أتألق حينا
ثم أرنق حيث أموت

هنا تتسع الأنا لتصبح جسدًا وشجرًا وجذرًا وحريقًا ..الخ وهذا الاتساع علامة دالة على تماهي الأنا في ذات المطلق ولا يخلو المقطع كذلك من العلامات الدالة على الثورة، فالحريق والقنديل يدلان على النور الذي يقابل الظلام والظلام رمز للاستبداد والظلم ومن ثم يكون النور هنا أداة لصنع الحرية ومحو الاستبداد وكافة أشكال الظلم..
والمدينة بيروت بتاريخها وحاضرها أيضا فجرت طاقات دلالية ثورية وسياسية..

تعليق واحد

comments user
يس علي

الفيتوري هو الإضافة الحقيقيه للشعر الحديث والثوار ففي شعره تتجلى مشاعر صادقه عن قضيته لا يلون الشعر حسب السير العام إذ أنه يعادي الظلم في كل بيت يكتبه وهذا ما يحببه للنقوس

إرسال التعليق

لقد فاتك