محمد الحبيب يونس يكتب :المسافة بين الشعر والمجتمع وانكسار الجسور.
زمن الشعر:
فيما سبق كان الشعر أهم الفنون في المجتمع العربي، فهو مراياه التي يرون فيها أنفسهم وهو المؤرخ وحافظ أيامهم وأخبارهم وهو سلاح تدافع به القبيلة عن نفسها وتعري به عيوب أعدائها كان الشعر يقوم بوظائف متعددة مما جعل له أهمية قصوى في المجتمع، فكل القبيلة تفرح إذ ولد فيها شاعرٌ، لأن لسانه سيفها ولسانها كذلك، هذه أهمية الشعر على المستوى الجماعي آن ذلك.
أما على المستوى الفردي كان الشعر لدى بعض الشعراء وسيلة للتكسب يمدحون به الملوك وذوي الجاه ليدروا نعمهم عليهم كما كان مظهرًا من مظاهر التفاخر، حيث كانت للشعراء مكانة عالية في المجتمع وهم دائما ما يكونون أقرب الناس من أصحاب السلطة والقرار، ما عدا الصعاليك الذين فضلوا العيش بعيدا عن ذلك، فكان مصدر فخرهم هو شعرهم وأعمالهم التي يقومون بها.
غيابه:
وبعد هذه المقدمة لابد أن نسأل لماذا تقهقرت أهمية الشعر ودوره في المجتمع وأصبح معزولا عن الأغلبية، فلا تراه متداولا إلا بين فئة قليلة جدا، وهي فئة الأدباء والنقاد ومحبي الأدب و المثقفين، ما السبب في غياب الشعر وحصره على فئات معينة ومن الذي حفر الهوة بين وعامة الناس، أهم الشعراء أم القراء أم الشعر نفسه .
الشعر
بعد أن انفتح الأدب العربي على الأدب العالمي وتأثر به تطور كثيرا وتسربت رؤى الحداثة فيها وبالأخص الشعر، حيث ظهرت له أشكال جديدة لم تكن موجودة في السابق واتسع عمود الشعر ليستوعب شكلا جديدا حيث وُلِدت قصيدة التفعيلة مغيرة في قوانينه لا سيما القافية وعدد تفعيلات البيت. ثم انكسر عمود الشعر بخروج قصيدة النثر وقصيدة الومضة.
صاحب التطور الإيقاعي تطورا في الأسلوب البياني، إذ وفدت إلى الشعر مفاهيم جديدة كالرمز والقناع والإحالة الخارجية، ومن ثم أصبح الشعر مكثفا ومعقدا في آن واحد، فهو لا يقوم على مجازات واضحة وقريبة كالسابق بل أصبحت المجازات كثيفة ومعقدة حيث اتسعت المسافة بين طرفي التشبيه إذ صارت العلاقة بين المشبه والمشبه به خيط رفيع لا تلمحه إلا الذائقة الشاعرة والمصقولة بالأدب والمعرفة، كما أن الرمز والإحالة إلى خارج النص ـ إن كان لحدث تاريخي أو شخص ـ وضعت القارئ أمام تحدي فكل رمز أو قناع يتطلب أن يكون القارئ مثقفا ومطلعا حتى يستطيع إضاءة النص إضاءة كاملة، فالقصيدة المعاصرة هي قصيدة مثقلة بالمحمولات الثقافية والتاريخية والفكرية، فالشاعر كثيرا ما يوظف حدثا تاريخية أو شخصية ثراثية أو أسطورة للتعبير عن تجربة ما حيث يكون بين تلك التجربة وبين الأسطورة أو الشخصية بعض الشبه.
ومن هنا يمكن أن نقول إن من أسباب صعوبة الشعر على القارئ هو الشعر نفسه، وذلك لتطور أسلوبه البياني وطرق تعبيره ولكن هذه الصعوبة يسهل تجاوزها بالقراءة والإطلاع فهي ليست عقبة على الإطلاق ما على القارئ سوى صقل ذائقته بالمعرفة عموما والأدب والشعر بشكل خاص حتى تصبح السماء ملموسة باليد.
القارئ:
يميل أغلب الناس اليوم إلى القراءة السريعة التي تعطي بغير كد أو جهد وتكون ثمارها في المتناول ويتهيّبون كل ما هو عسير ويحتاج إلى تأمل وتفكير، لذلك قل قارئو الأدب، لأن الأغلبية صاروا يميلون إلى قراءة المواضيع الساهلة سواءا كانت سياسية أو رياضية أو غيره. وحتى الذين يقرؤون الأدب يميل أغلبهم إلى قراءة القصص والروايات لسهولتها مقارنة بالشعر، فالشعر كما أسلفنا يحتاج لقارئ مسلح بالمعرفة والثقافة والأدب العربي من قديمه إلى حديثه حتى يذلل صعابه ويضيء عوالمه.
لكن في عصر السرعة قل أن تجد شخصا يسخر زمنه للإطلاع الواسع والفاحص للشعر إذ نزلت مكانة الشعر في نفوس الناس بعد أن كان ذات يوم هو العلم والتاريخ وأداة الأعلام وسيف القوم، فقد أصبح اليوم بسبب تقدم العلم التجريبي وظهور أجناس أدبية منافسة للشعر وانتشار فن التمثيل من مسلسلات وأفلام تراجع الشعر عن مرتبته التي كان فيها في الجاهلية وصدر الإسلام والعصور التي تلته .
إذن القارئ كذلك هو سبب من أسباب غياب الشعر في المجتمع سواءا في كان ذلك نتيجة لعدم معرفته الكافية أو لميله لفنون أخرى.
الشعراء:
هل لعب الشعراء دورا في غياب الشعر في المجتمع وسجنه لدى فئات الأدباء والمثقفين؟.
كما أسلفنا أن الشعر تطورت أساليبه وصار أجنح إلى الغموض والترميز ومن هنا أصبح كثير من الشعراء يتنافسون في هذا المضمار. فيحاول كل واحد أن يأتي بأغرب المجازات ويكثف من استخدام الرموز داخل قصيدته ويعقد أساليبه لدرجة أحيانا قد تصبح القصيدة مغلقة ومجرد مجازات فارغة وصور عبثية بعضها فوق بعض لا تؤدي إلى أي دلالة، فتكون كالسيرك تعرض كل أشكال الغرابة اللغوية من شقلبة مجازات وتراكيب، فتكون حركة النص حركة مثيرة للغبار تبهر القارئ بغرابتها ولكنه في نهاية المطاف لا يجد في رأسه سوى الغبار الذي خلفته القصيدة.
الشاعر قليل المعرفة وقليل الموهبة دائما ما يعوض فراغ موهبته ومعرفته بالضبابية الأسلوبية حتى لا يتعرى فقره الشعري أمام الناس. ومن هنا يجد القارئ نفسه أمام قصيدة من الطلاسم يعسر عليه إضاءتها لأنها غير قابلة لذلك فهي قد خُلِقت لتكون مثيرة للحيرة بانغلاقها الدلالي لا كي تضاء.
لا أقول إن الرمزية وتوظيف المعرفة والثقافات أفسدت الشعر بل هي دفعته للأمام وقوته ورفدته وزادت من جمالياته.
ما أفسد الشعر هم الشعراء الذين لا يجيدون توظيف الرموز ولا الثقافة توظيفا يهب القصيدة معانيا جديدة ويفتح آفاقا دلالية أمام القارئ بل دائما ما ينتج عن توظيفهم انغلاق تام لدلالة النص.



تعليق واحد