د.جودات الشريف يكتب :ما بعد لحظة التأسيس: نحو حكومة السلام والوحدة - صوت الوحدة

د.جودات الشريف يكتب :ما بعد لحظة التأسيس: نحو حكومة السلام والوحدة

ليس كل يوم تتهيأ لشعبٍ فرصة تاريخية يعيد بها تعريف دولته من جذورها، ويصوغ فيها مستقبله بإرادته الحرة، لا بإملاءات التغلب أو المواريث المثقلة بالفشل. والسودان اليوم، وهو على مشارف الإعلان عن حكومة السلام والوحدة، يُطل من قِبلة خريف (بُكلي) على مستقبل جديد وواعد من (شواقيرو باين)، لا يشبه ما سبقه، ولا ينوي التشبّه بما مضى.

لا ننتظر من هذه الحكومة المرتقبة أن تُصلح ما أفسدته عقود من الفشل، بل ما نرجوه أن تكون بدايتها مختلفة، مؤسسة على فلسفة جديدة للدولة: دولة إقامة العدل بديلاً عن القهر، دولة المواطنة على أنقاض دولة الامتيازات، ودولة الحكمة لا الغلبة. نحن لا نُقارن بين ماضٍ وحاضر، بل نفتح (ضَلفات) ونوافذ لغدٍ مأمول نثق بأنه ممكن، ونُحسن الظن في أن ما يُبنى الآن بمعاول الإخلاص والصدق وعرق النضال ودماء الشهداء لهو قادرٌ أن يُشكّل قطيعة حقيقية مع ما قبل الاستقلال وما بعده حتى حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣م، وقطيعة مع منطق ومنهج الدولة التي بُنيت لتُقصي، لا لتحتضن شعوبها. وكما قال خوسيه موخيكا “ليس المستقبل ما ننتظره، بل ما نبنيه.” فإنّ ما على وشك التحقق ليس مجرد إعلان سياسي لتشكيل حكومة فحسب، بل هو امتحان لبيض النوايا وصدق الإرادة، وفرصة لبعث الدولة السودانية من جديد – ليس كهيكل إداري، بل كعقدٍ اجتماعي يتأسس على الكرامة الآدمية، والتمثيل التكافؤي، والعدالة.

لقد كانت مقالاتنا الثلاث السابقة محاولة لتعبيد الطريق نحو هذه اللحظة؛ كل واحدة منها أضاءت زاوية من زوايا التأسيس، وطرحت أسئلة الشعب الملحة في فضاء المصارحة بعيداً عن “فهلوة” النخب. ففي “قراءة نقدية في مقال مفاهيم ومصطلحات سياسية…”، نبهنا إلى خطورة اللغة حين تُستخدم كأداة للإقصاء أو التحايل الماكر، وناشدنا بضرورة بناء خطاب سياسي جديد يعبر عن روح وثيقة نيروبي 2025، ويستند إلى مفردات نابعة من وجدان الشعب لا من كواليس النخب التآمرية. وفي مقالنا “من الميثاق إلى الدولة” بسّطنا الرؤية في أن الانتقال الحقيقي لا يُقاس بعدد الهياكل، بل بقدرتها على حمل مشروع وطني جديد لكل سوداني فيه مكانٌ ونصيب، وأن الهياكل يجب أن تنبثق من الميثاق، ليس بالتحايل عليه، وأن التمثيل يجب أن يلامس الأرض والمجتمعات، لا أن يتوقف عند عتبة أبواب الحكام. أما في مقال “لحظة التأسيس…”، فقد تم تسليط الضوء على الصعود الرمزي والفعلي للهامش، وكيف أن نهوض الهامش ليس استثناءً ظرفياً بل تحولاً تاريخياً في تعريف الدولة نفسها وإعادة صياغة خرائطها الاجتماعية ومعادلتها السياسية: من أداة سلطة إلى أداة عدالة.

واليوم، وفي هذه المقالة الرابعة، نجمع شتات تلك الرؤى، لا تكرارًا مبتذلًا أو إسهابًا مرتجلاً، بل تأسيسًا جديدًا على أرضية خصبة أكثر صلابة ومهابة. الأرضية التي نقف عليها الآن تختلف، وسقف الرجاءات الذي نطمح إليه أصبح متاحاً ومباحاً وتحقيقه ممكناً، لأن ميزان القوة ذاته قد تغيّر لمصلحة المستقبل المرتجى، ولأن الذين في مقدمة المشهد اليوم هم أبناء التجربة وليسوا صنيعة الامتيازات والحظوة. فكما قيل “الأفكار لا تصنع التغيير إلا حين تجد رجالًا ونساءً يحملونها على أكتافهم.”

إنّ هذه الرؤية الجامعة لا تنطلق من تنظير نخبوي (فالصو)، بل من معاناة شعب طال انتظاره، وها هو اليوم يطرق باب الأمل مرةً أخرى، عسى أن تُفتح كُوّات الأمل هذه المرة من إرادة الشعب، لا من عِلِ زائف.

لسنا هنا لنجلد الذاكرة، ولكن لنستلّ منها ما ينفع الناس ويمكث، كي لا نعيد رسم الأخطاء والخطايا بألوان جديدة. فالفشل الذي لازم التجربة السياسية السودانية لم يكن قضاءً محتومًا لنركن إليه، بل نتاج خيارات سياسية خاطئة وربما مقصودة لذاتها تماماً، ونُظم حكم أُقيمت على مقاييس الولاء الإثني والجغرافي، بعيداً عن مقايسات النزاهة والكفاءة، والإقصاء والاستعلاء لا التمثيل والعدالة. لقد تعاقبت علينا أنظمة لم ترَ في الشعب شريكًا، بل رأته مفعولًا به في حكاية سلطوية طويلة السرد. أنظمة حكم متعاقبة لم ترَ في التنوع إلا تهديداً لوجودها المُخل، ولم تستوعب من قيمة التباين وفضيلة الاختلاف إلا كإشارة لتمرد على سلطانها الجائر. فصنعت دولة تتوكأ على محاباة المركز واعتساف الأطراف والهوامش، تخاف من المواطن المطلبي الحر لأنها تفتقر إلى حُجية متماسكة لتحاوره، بل تفضل أن تتحكم فيه بمنطق القهر والجبروت ومنطق القوة.

في كل مرة كنا نخرج من نفقٍ مظلم بثورة يقودها الشعب، كانت الأيدي النخبوية ذاتها تعيدنا إليه وفي قاعٍ أعمق؛ لأننا لم نُعِد تعريف الدولة، بل رممنا وجهها الكالح وتركنا جوهرها على حاله.

لهذا السبب، فإنّ تأسيس حكومة السلام والوحدة لا يجب أن يُختزل في تشكيل وزاري، بل ينبغي أن يُفهم كـ”حدث تأسيسي” يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، بين السلطة والمجتمع، وبين المسؤولية والشرعية. فالفشل السياسي ليس قدرًا لنركن إليه استسلاماً، بل ناتج طبيعي حين تكون معايير الحكم مبتذلة ومختلّة، والسلطة “عايرة” بلا مساءلة، وإدارة بلا معايير ضابطة، وتمثيل بلا وجدان يصدق حتمية الانتماء لهذا الوطن. ولذا فإن قطيعتنا مع هذا الماضي لا يجب أن تكون رمزية، بل يجب أن تكون هيكلية ومنهجية.

اللحظات التأسيسية لا تحتمل التجريب العشوائي ولا المجاملات السياسية. ففي مثل هذه المنعطفات، تصبح الحكمة ضرورة وطنية واجبة، لا ترفًا نظريًا، ويغدو التأسيس علمًا يُحتكم إليه وليس مزاجًا يُسترضى. لقد علّمتنا تجارب الشعوب أنّ الدولة لا تُبنى بالخطب ولا بالشعارات، بل بالمؤسسات الراسخة والمعايير الشفافة، وبإرادة سياسية تنحاز للمصلحة العامة لا للمواقع والمغانم الذاتية أو المجموعاتية. وأن أعظم القرارات في بدايات الدول لم تكن شعبية دائمًا، لكنها كانت ضرورية لبناء الثقة بين الحاكم والمجتمع، ولترسيخ قاعدة “لا أحد فوق القانون، ولا أحد خارج العدالة”.

نيلسون مانديلا، بعد خروجه من السجن، لم يُطالب بالثأر، بل أطلق لجنة الحقيقة والمصالحة، واضعًا بذلك أول لبنة في بناء دولة المواطنة والكرامة في جنوب إفريقيا. لأن “الشجعان لا يخافون من الصفح من أجل السلام.”

مهاتير محمد – واجه التحديات بجرأة، وراهن على التعليم والحوكمة المؤسساتية والكفاءة، فحمل بلاده إلى مصاف الدول الناهضة.

خوسيه موخيكا اختار أن يعيش في مزرعة بسيطة، وتبرع بـ90% من راتبه، ليُبرهن أن القيادة خدمة للرعية وليس امتيازاً للراعي، لأنه كان على دراية وفقه بأن من يتواضع لشعبه يرتقي بوطنه. فمن لا يعيش كما يُفكر، سينتهي به الأمر أن يُفكر كما يعيش.

أما بول كاغامي، فقد خرج من ركام الإبادة ليبني دولة قائمة على المسؤولية والمساءلة وتمكين النساء والنزاهة الإدارية. ليست العبرة بنقل هذه التجارب حرفيًا، بل باستلهام جوهرها: أن التأسيس مسؤولية أخلاقية وتاريخية، وأنّ الانحياز للمستقبل يتطلب جرأة القطيعة مع كل ما هو مهترئ وينتمي إلى إرث الماضي القميء.

ليست هذه الكلمات توجيهًا لأحد، ولا وصاية على أحد، بل هي نداء واستدعاء للمسؤولية في لحظة التأسيس التي تستوجب الشفافية والجرأة. وإن كانت هذه المرحلة قد قُيّض لها أن يقودها الفريق أول محمد حمدان دقلو، وينوب عنه الرفيق عبد العزيز آدم الحلو، وبقية الكوكبة شركاء التأسيس، فهم لا يحملون فقط صفة القيادة، بل عبء التاريخ وأمل وتطلعات ملايين الناس من أهل السودان. إنّ التجربة التي يخوضها ويقودها تحالف التأسيس اليوم ليست تكرارًا لماضي النخب الفاشلة، بل تجربة مختلفة النشأة والظروف والدوافع والتطلعات. وإن كنا نثق أنّ هذه التجربة يمكن أن تصنع فارقًا، فإننا بنفس القدر نثق بأنها بقدر ما هي ابتعدت عن حظوظ الذات وثقافة الغنيمة والأنا السياسي الذي أرست سننه ونواميسه أنظمة الحكم السابقة، بقدر ما اقتربت من محطة الإيفاء برسالتها التي تحملها. فالقيادة لا تبدأ من “فووووووق”، بل من عمق الإحساس بمسؤولية من هم في القاعدة. فالمناصب ليست مغنمًا سياسيًا، بل امتحانًا أخلاقيًا لمن يشغلها تكليفاً.

إرسال التعليق

لقد فاتك