نصر الدين رحال يكتب :أيهما أشد ضررًا على خلق الله؟ سكارى الخمر أم سكارى السلطة؟
السكر (بضم السين) هو حالة من النشوة تجعل صاحبها يعيش في حال وعالم غير الواقع الذي يعيشه الإنسان الطبيعي. فمثلما تسكر الخمر (بضم التاء) شاربها، كذلك تسكر السلطة (بضم التاء) من يتقلدها. وسلوك وأقوال وأفعال كلٍّ من سكارى الخمر وسكارى السلطة بلا شك يخلّف أضرارًا على من حولهم من الخلق.
ولخطورة ما قد ينتج من قول أو فعل من سكران الخمر بعد أن تتلبسه، قال الله تعالى عنها قبل أن يُحرّمها على المسلمين في القرآن الكريم: “قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما”، إشارة صريحة إلى أن ضررها يفوق نفعها. ولذلك، كتب أحد الشعراء عنها يقول:
شربنها، ولما دبّ دبيبها
إلى مواطن الأسرار قلنا لها قف!
فـ”مواطن الأسرار” هو القلب، وخوفًا من أن تستخرج السكرة منه ما لا يرغب صاحبه أن يطلع عليه الآخرون، طلب منها التوقف قبل أن تتوغّل إليه. هذه الصورة الشعرية تجسّد كيف أن السُكر يفضح الداخل ويُخرج ما لا يُفترض أن يُقال.
ورغم اختلاف مصادر الحصول على السُكر—سواء من خمر تُشرب أو سلطة تُغتصب أو تُمنح—إلا أن أضرار كلٍّ منهما على الخلق تختلف. فأضرار سكران الخمر محدودة ومؤقتة، لا تتعدّى دائرة ضيقة من معارفه ومحيطه، إذ أن تغييب العقل يكون جزئيًا، وفي وقت محدود، وتنحصر نتائجه على ما قد يصدر من تصرفات عابرة.
أما سُكر السلطة، فضرره أوسع وأعمق وأشد فتكًا. إذ لا يتوقّف على الأفراد المحيطين بالحاكم أو المسؤول، بل يشمل مجتمعات وشعوبًا وأجيالًا. ولهذا قيل: “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”، لأن غياب الرقابة والردع القانوني يحوّل الحاكم إلى طاغية يعيش في وهم السيطرة، يتفنّن في إيذاء الخلق، ويبطش بكل من يخالفه.
وعلى مرّ التاريخ، وخاصة في دول العالم الثالث، ارتُكبت فظائع كثيرة باسم السلطة، وغالبًا ما تم الوصول إليها بطرق لا تمتّ إلى الديمقراطية والمشروعية بصلة. ولعل من أبرز النماذج ما قاله العقيد معمر القذافي عندما كان في ذروة سكرته السلطوية مخاطبًا الثوار الليبيين بقوله الشهير: “من أنتم؟”، وواصفًا إياهم بـ”الجرذان”، قبل أن يسقط على يد من استهان بهم.
وفي السودان، لا يخفى ما فعله الرئيس جعفر نميري أيام حكمه الشمولي، حين فصل العمال المناوئين له من وظائفهم، وقد عبّر الشاعر محمد الحسن سالم حميد عن تلك المرحلة المظلمة بقوله:
تفّ قرارو وفات في حالو
متين عامل في فت يوم؟
ما بهموش يبقوا هوامل!
وسار على ذات الطريق “الإنقاذيون” (الحركة الإسلامية)، فأثقلوا البلاد والعباد بقرارات كارثية وأفعال قمعية، حتى أصبح بعض قادتهم مطلوبين أمام المحكمة الجنائية الدولية (ICC) وما يزالون ملاحقين بسبب جرائم ارتكبوها خلال فترات سُكرهم بالسلطة.
إن ما يتوفّر لسكارى السلطة من نفوذ وصلاحيات، في ظل غياب القانون والرقابة، يجعلهم يتفرعنون على الناس، ويشيعون الفساد والاستبداد، فيعلون في الأرض، ويظلمون العباد، وكأنهم خالدون.
في الختام، قد تكون الخمر مفسدة فردية، لكن السلطة حين تسكر صاحبها، تتحوّل إلى لعنة جماعية تعصف بالأمم، وتمزق الأوطان، وتُفسد الإنسان
إرسال التعليق