عبد الحفيظ الإمام يكتب : تحالف القاهرة الخفي: كيف تُرتّب مصر حاضنة وسطية لعمرٍ أطول للبرهان؟
بين دهاليز الفنادق وضباط المخابرات
بين دهاليز الفنادق في القاهرة وأروقة المخابرات التي لا تغيب عنها التفاصيل، تجري لعبة جديدة على جسد الدولة السودانية الممزق. ففي لحظةٍ بدت فيها الخرطوم بلا غطاء مدني موحد، وأصوات البندقية وحدها تكتب عناوين الغد، ظهرت القاهرة كمهندس خلفي يلمّ شتات أحزاب أيديولوجية متنافرة شيوعيون، بعثيون، قوميون ويجمعهم على طاولة واحدة بوعود غامضة وهواجس مشتركة.
تحالف هش يغطي سطوة العسكر
من خلف الستار، تُرسم ملامح حاضنة سياسية وسطية تفتح للبرهان بابًا جديدًا ليغطي سطوة العسكر بغطاء مدني هش. ومعها تتحرك الحسابات القديمة: من يملأ الفراغ؟ من يقصي من؟ ومن يكتب اسمه على ورقة الحكم إن صمتت المدافع فجأة؟
صراع الأيديولوجيا وخوف الإسلاميين
لكن خلف هذا المشهد، تلوح حقائق أكثر تعقيدًا. فهذه الأحزاب تحمل في عمقها موقفًا أيديولوجيًا راسخًا من تحالفات مثل (تأسيس صعود )، الذي تراه بوابة للرأسمالية والإمبريالية لتقليص نفوذ الاشتراكية والفكر القومي في الخرطوم. ولذلك، فإنها تترقب لحظة سانحة لسد الفراغ وإغلاق الطريق أمام أي حكومة مدنية قد تُمكّن خصومها الأيديولوجيين.
اجتماعات تحت رعاية العيون الأمنية
أما الإسلاميون، وكما جرت عادتهم، يراقبون بصمتٍ تكتيكي، ينتظرون هدوء العاصفة، على أمل أن يمنحهم هذا التحالف (المؤقت) فرصة إضافية للهروب من الضغوط والعزلة الدولية تمامًا كما فعلوا سابقًا حين انقضّوا على المدنيين في حكومة الشراكة، في تكرار لوضعية حركات الكفاح المسلح هذه الأيام، التي تحوّلت إلى كيانات مشلولة بلا موقف حاسم.
في هذا المشهد، لم تكن الاجتماعات التي استضافتها القاهرة — أولها في 11 يناير 2024 وثانيها في 15 مارس — مجرّد محاولات حوار. فقد تولّى ضباط من جهاز المخابرات العامة المصرية ترتيب التفاصيل وتأمين خطوط التواصل. لم يكن ذلك سرًّا بل رسالة صريحة: القاهرة تتحرك هنا كصانع وراعي، لا مجرّد وسيط محايد.
حكومة بوجوه قديمة لدعم سلطة قديمة
الغاية واضحة: إنتاج حكومة انتقالية من الصفوف الوسطى والخلفية لهذه الأحزاب شخصيات تاريخية دون هالة جماهيرية أو التزامات ثورية لتكون غطاءً يطيل عمر سلطة البرهان، ويمنح الإسلاميين هامشًا كافيًا للنجاة من عزلة الخارج.
لكن هذه الوصفة تُواجه معضلة كبرى: المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة وحلفاؤها، لن يمنح هذا التحالف دعمًا كاملاً. وحتى لو مُنح بعض الدعم المرحلي المحدود للحفاظ على ما تبقى من تماسك الدولة في بورتسودان أو موانئ البحر الأحمر، فلن يُسمح بتمدد نفوذ الشيوعيين والبعثيين واللوبيات التي تتحرك عبرهم.
خاتمة: الخرطوم بلا أوراق مضمونة
هكذا يبقى هذا التحالف مهما بدت ترتيباته محكمة مشروعًا هشًّا لإطالة عمر سلطة الإسلاميين بصيغة جديدة. لكن المتغيرات والتحركات الإقليمية والدولية المتسارعة قد تعجّل بانهياره قبل أن يكتمل، ليظل السودان أسير الفراغ السياسي.
في النهاية، قد تُظهر الخرطوم مرة أخرى أنها مدينة صعبة المراس لا تستقر فيها التحالفات المعلّبة طويلًا، مهما رُتبت في غرف الفنادق أو صِيغت في مكاتب المخابرات. فالمعادلة الأهم في النهاية ستظل رهينة لمن يمتلك القدرة على ملء الفراغ السياسي ببرنامج واضح وشراكة حقيقية مع الناس قبل العواصم.
إرسال التعليق