د.جودات الشريف : قراءة نقدية في مقال: “مفاهيم ومصطلحات سياسية تنسف روح وثيقة نيروبي 2025”
في مقاله الموسوم بـ “مفاهيم ومصطلحات سياسية تنسف روح وثيقة تأسيس نيروبي 2025”، يقدِّم الدكتور حافظ الزين، استنادًا إلى ما سمّاه “نظرية العهد الجديد”، نقدًا جذريًا لمجموعة من المفاهيم التي وردت في الوثيقة السياسية المرجعية لتحالف نيروبي. المقال مكتوب بلغة فلسفية حادة، تميل إلى التجريد والرفض المطلق، وتُعبِّر عن طاقة نقدية قاسية. غير أن القراءة العلمية والسياسية للمقال تكشف عن ثغرات منهجية ومفاهيمية لا يمكن تجاهلها، خاصة إذا أردنا أن يكون النقد أداة بناء لا أداة نسف غير منتجة.
ينطلق الكاتب من تفكيك أربعة مفاهيم محورية: إعادة بناء الدولة، سودان علماني ديمقراطي لا مركزي، السودانوية، وشعار “وطن يسع الجميع”. وبالرغم من الوجاهة الظاهرية لبعض التساؤلات التي يطرحها، إلا أن البناء النقدي الذي يعتمد عليه يفتقر إلى التوازن، ويقع في خلط منهجي بين الواقع القائم والطموح السياسي، وبين التحليل الفلسفي والتشخيص السياسي العملي.
أول ما يطرحه المقال هو الاعتراض على مصطلح “إعادة بناء الدولة السودانية”، باعتبار أن هذا التعبير يفترض مسبقًا وجود دولة قائمة، وأن الحديث عن “تأسيس جديد” يتناقض معه. إلا أن هذا الطرح يتجاهل الاستخدام الواسع لمفهوم “إعادة بناء الدولة” في سياقات ما بعد الحرب أو الانهيار المؤسسي، كما هو الحال في العراق، الصومال، رواندا، وأفغانستان. في هذه الحالات، لم يكن المقصود بـ”إعادة البناء” ترميم الأنظمة القديمة، بل بالعكس: تفكيكها وإقامة أنظمة جديدة على أنقاضها. وعليه، فالمصطلح لا ينفي روح التأسيس، بل قد يكون هو نفسه إحدى أدواتها.
ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى تفكيك عبارة “سودان علماني ديمقراطي لا مركزي”، ويطرح تساؤلات فلسفية حول دلالة “سودان علماني”، وما إذا كان المقصود هو الدولة أم البلد (المكان، الشعور، والانتماء). وهنا يقع في فخ الخلط بين التحليل المفاهيمي والتشخيص الواقعي. فالمصطلح المذكور لا يدّعي توصيف السودان الحالي، بل يعبّر عن نموذج مقترح للنظام السياسي المنشود. أما القول إن السودان “لم يكن دولة قط”، فهو أقرب إلى موقف غير حيادي منه إلى تحليل سياسي؛ لأن السودان، رغم هشاشة تجربته، كان دولة قائمة بحدود وسكان وسلطة واعتراف دولي، وإن فشلت نخبه في تلبية تطلعات مواطنيه.
ثم يعترض الكاتب على ما يراه تناقضًا بين العلمانية والديمقراطية، مشيرًا إلى أن النموذج العلماني قد يُرفض شعبيًا عبر الاستفتاء. إلا أن هذا المنطق لا يقدح في الفكرة الديمقراطية، بل يعزّزها. فإتاحة المجال للشعب ليختار هو جوهر الديمقراطية، ورفض النموذج عبر آلية ديمقراطية لا يعني فشله، بل يُعد احترامًا لإرادة الناس. لكن الأهم من ذلك هو أن العلمانية، حين تُقدَّم كضمان لحياد الدولة وعدالة المواطنة، لا كعداء للدين، تصبح مطلبًا شعبيًا لحماية الجميع من التمييز والتطرّف. أما أن تُطرح العلمانية دون إخضاعها لنقاش شعبي، فذلك هو ما يُفقد المشروع شرعيته.
وفي تفكيكه لمفهوم “اللا مركزية”، يتساءل الكاتب ما إذا كان المقصود هو اللامركزية الإدارية أم الفيدرالية السياسية، ويعتبر أن استخدام “لا مركزي” بديلًا عن “فيدرالي” ينطوي على غموض أو تهرّب. وهنا يمكن الاتفاق على ضرورة وضوح المصطلحات، لكن لا يجوز افتراض أن كل غموض مقصود، بل قد يكون نتيجة التوافقات السياسية التي تسعى للحد الأدنى من الاتفاق بين أطراف متعددة. الفيدرالية قد تكون مطلبًا مرحليًا، لكن اللامركزية تظل بداية مقبولة لتحقيق توازن سلطوي.
ينتقل المقال إلى تفكيك مفهوم “السودانوية”، ويهاجمه باعتباره مفهومًا غير محدد الهوية ولا يستند إلى قراءة صحيحة للتاريخ. وهنا يمكن القول إن هذا النقد في محله جزئيًا؛ فالسودانوية كمفهوم سياسي–ثقافي ما زالت في طور التكوين، وتحتاج إلى تأطير معرفي أعمق. غير أن الكاتب لا يقدّم بديلاً واضحًا، ولا يجيب عن السؤال الأهم: إذا لم تكن السودانوية هي الهوية الجامعة، فما البديل؟ هل نعود إلى الهويات القبلية والدينية؟ هل نقبل بتعدّد الهويات دون إطار جامع؟ السودانوية، رغم غموضها النسبي، تُمثّل محاولة للخروج من فخ ثنائية الشمال/الغرب أو العرب/الأفارقة، نحو هوية تقوم على المواطنة والعدالة.
وأخيرًا، يهاجم المقال شعار “وطن يسع الجميع” باعتباره مصطلحًا مخادعًا يفتح الباب أمام عودة الإسلاميين وفلول الدولة القديمة. إلا أن هذا الطرح يقع في مغالطة سياسية. فالدولة الديمقراطية لا تُبنى على الإقصاء المطلق، بل على أساس المحاسبة والمساءلة ضمن القانون. لا أحد يطالب بمنح الحصانة لرموز النظام البائد، لكن لا يجوز أيضًا أن يُختزل الوطن في فئة دون أخرى. الشعوب الحرة لا تحاكم التيارات السياسية بالشعارات، بل بالأفعال، والقانون هو الضامن للعدالة، لا الثأر السياسي.
إن نظرية العهد الجديد، كما طرحها الكاتب، رغم ثرائها الفلسفي الظاهري، لم تطرح بديلاً مؤسسيًا متماسكًا، بل اكتفت بنسف الوثيقة دون تقديم مسودة جديدة للنظام السياسي المقترح. وثيقة نيروبي 2025 ليست نصًا مقدسًا، ويمكن نقدها وتطويرها، لكن ذلك لا يكون عبر تفكيك شعاراتها فحسب، بل عبر تقديم مفاهيم قابلة للتطبيق وتحمل القدرة على جمع السودانيين، لا تشتيتهم باسم “النقاء المفاهيمي”.
فالسودان لا يحتاج فقط إلى التنظير، وهو أمر مطلوب، بل إلى عقل سياسي جماعي يستطيع التأسيس لمستقبل تتعدّد فيه الآراء، وتتّفق فيه الإرادة.



إرسال التعليق