ما بعد نهاية التاريخ
بقلم : المودودي الدود
قبل بزوغ شمس الحداثة الغربية وصعود النظام الرأسمالي كقوة كونية، لم يكن العالم يومًا أحادي القطب. بل لطالما وُجدت حضارات متعددة تتقاسم مركز الثقل الحضاري في رقع جغرافية متباينة، من الصين والهند شرقًا إلى الخلافة الإسلامية وأوروبا غربًا. كان التاريخ آنذاك حوارًا بين روايات متعددة.
غير أن القرن العشرين، وتحديدًا لحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية، اختزل هذا التعدد إلى ثنائية قطبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ليتحول لاحقًا، عقب انهيار جدار برلين، إلى سردية واحدة بدا كما لو أنها قد طوت كل بدائلها: سردية الليبرالية الغربية بقيادة أمريكا، وهي اللحظة التي وُصفت، عن حق أو توهّم، بأنها “نهاية التاريخ”.
لقد رأى فرانسيس فوكوياما أن الليبرالية الغربية ليست مجرد نظام سياسي ناجح، بل تجسيد لنهاية المسار التاريخي كما فهمه الفيلسوف الألماني هيغل. فالتاريخ عند هيغل لم يكن تتابعًا عشوائيًا للأحداث، بل حركة جدلية نحو تحقق الحرية. وفوكوياما تبنّى هذا الفهم، مُضيفًا أن الديمقراطية الليبرالية مثّلت، في لحظة ما بعد الحرب الباردة، ذروة هذه الحركة؛ لحظة بلغ فيها الإنسان “الحرية السياسية” التي سعى إليها عبر العصور.
لكن المفارقة تكمن في أن هذه “النهاية” لم تكن سكونًا أبديًا، بل طورًا مؤقتًا في مسارٍ مفتوح، لحظة عبور قد تتلوها تجاوزات جديدة. فكما أن التاريخ هو الزمكان الذي تتجسّد فيه سردية الإنسان نحو مزيد من التحرر، فإن توقفه عند نموذج واحد لا يلغي احتمالات التحول، بل يؤكد حتميته. وهكذا، فإن تجاوز الليبرالية لا بوصفه انهيارًا، بل كتحول تاريخي هو جزء من سنن الحياة ودليل على أن ما ظنّه البعض نهاية، لم يكن سوى مرحلة من مراحل الصيرورة التاريخية المستمرة.
وما نشهده اليوم من انحسار للهيمنة الأميركية ليس مجرد تراجع جيوسياسي، بل تفكك للسردية الكونية التي تصدّرت باسم “العقلانية والحرية”. لقد دخلنا طور ما بعد نهاية التاريخ، حيث تتقدّم الصين من الهامش إلى المركز، لا بوصفها بديلاً ضمن عالم متعدد، بل كمشروع شمولي جديد يُهدّد بإعادة إنتاج التفرد من موقع مختلف.
لقد كنا نظن أن أفول المركز الأميركي سيفتح المجال لولادة عالم تعددي، يعيد التوازن بين الثقافات والسرديات الكبرى، ويحرر التاريخ من قبضة الغرب. لكن ما يتكشّف الآن أن العالم لا يتحرر من الأحادية بل يعيد إنتاجها تحت راية جديدة، وبأدوات محدثة، ولكن بالجوهر ذاته: احتكار السرد.
وهكذا، يبدو أن قدرنا كشعوب حلمت بخروج الإنسان من قبضة المركز وهيمنة النموذج، ألا ننتقل من الإمبراطورية إلى التعدد، بل من إمبراطورية إلى أخرى، في دورة تاريخية لم تكتمل بعد.
ما بعد نهاية التاريخ :-
قبل بزوغ شمس الحداثة الغربية وصعود النظام الرأسمالي كقوة كونية، لم يكن العالم يومًا أحادي القطب. بل لطالما وُجدت حضارات متعددة تتقاسم مركز الثقل الحضاري في رقع جغرافية متباينة، من الصين والهند شرقًا إلى الخلافة الإسلامية وأوروبا غربًا. كان التاريخ آنذاك حوارًا بين روايات متعددة.
غير أن القرن العشرين، وتحديدًا لحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية، اختزل هذا التعدد إلى ثنائية قطبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ليتحول لاحقًا، عقب انهيار جدار برلين، إلى سردية واحدة بدا كما لو أنها قد طوت كل بدائلها: سردية الليبرالية الغربية بقيادة أمريكا، وهي اللحظة التي وُصفت، عن حق أو توهّم، بأنها “نهاية التاريخ”.
لقد رأى فرانسيس فوكوياما أن الليبرالية الغربية ليست مجرد نظام سياسي ناجح، بل تجسيد لنهاية المسار التاريخي كما فهمه الفيلسوف الألماني هيغل. فالتاريخ عند هيغل لم يكن تتابعًا عشوائيًا للأحداث، بل حركة جدلية نحو تحقق الحرية. وفوكوياما تبنّى هذا الفهم، مُضيفًا أن الديمقراطية الليبرالية مثّلت، في لحظة ما بعد الحرب الباردة، ذروة هذه الحركة؛ لحظة بلغ فيها الإنسان “الحرية السياسية” التي سعى إليها عبر العصور.
لكن المفارقة تكمن في أن هذه “النهاية” لم تكن سكونًا أبديًا، بل طورًا مؤقتًا في مسارٍ مفتوح، لحظة عبور قد تتلوها تجاوزات جديدة. فكما أن التاريخ هو الزمكان الذي تتجسّد فيه سردية الإنسان نحو مزيد من التحرر، فإن توقفه عند نموذج واحد لا يلغي احتمالات التحول، بل يؤكد حتميته. وهكذا، فإن تجاوز الليبرالية لا بوصفه انهيارًا، بل كتحول تاريخي هو جزء من سنن الحياة ودليل على أن ما ظنّه البعض نهاية، لم يكن سوى مرحلة من مراحل الصيرورة التاريخية المستمرة.
وما نشهده اليوم من انحسار للهيمنة الأميركية ليس مجرد تراجع جيوسياسي، بل تفكك للسردية الكونية التي تصدّرت باسم “العقلانية والحرية”. لقد دخلنا طور ما بعد نهاية التاريخ، حيث تتقدّم الصين من الهامش إلى المركز، لا بوصفها بديلاً ضمن عالم متعدد، بل كمشروع شمولي جديد يُهدّد بإعادة إنتاج التفرد من موقع مختلف.
لقد كنا نظن أن أفول المركز الأميركي سيفتح المجال لولادة عالم تعددي، يعيد التوازن بين الثقافات والسرديات الكبرى، ويحرر التاريخ من قبضة الغرب. لكن ما يتكشّف الآن أن العالم لا يتحرر من الأحادية بل يعيد إنتاجها تحت راية جديدة، وبأدوات محدثة، ولكن بالجوهر ذاته: احتكار السرد.
وهكذا، يبدو أن قدرنا كشعوب حلمت بخروج الإنسان من قبضة المركز وهيمنة النموذج، ألا ننتقل من الإمبراطورية إلى التعدد، بل من إمبراطورية إلى أخرى، في دورة تاريخية لم تكتمل بعد.
إرسال التعليق