تفكيك النظام الأممي: من أزمة وظائف إلى إعادة تشكيل النظام العالمي

بقلم : سارة السعيد

منذ تأسيس الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شكّلت هذه المنظمة الإطار المؤسسي الحاكم للنظام العالمي، ليس فقط كجهاز لتسوية النزاعات، بل كآلية لترسيخ معايير السلوك الدولي، وضبط استخدام القوة، وتكريس الشرعية القانونية للدولة. غير أن النظام الأممي بات اليوم يعاني أزمة مزدوجة: من جهة، تآكل في وظائفه التنفيذية والتنسيقية؛ ومن جهة أخرى، انهيار تدريجي في شرعيته بوصفه الإطار الأعلى المنظِّم للعلاقات الدولية. هذه الأزمة لا يمكن اختزالها في تعثّر إجراءات، أو تسييس قرارات، بل تعكس تحوّلًا جذريًا في بنية النظام الدولي ذاته، بما يفرض إعادة التفكير في جدوى المؤسسات الأممية كأدوات لتقنين القوة أو تنظيم المصالح.

على المستوى الوظيفي، فشلت الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة في إدارة أو إنهاء النزاعات المعقدة، من سوريا إلى اليمن، ومن السودان إلى أوكرانيا. في كل حالة، اتضح أن قدرة المنظمة على تحويل التوافق إلى تسوية، أو الموقف القانوني إلى واقع ميداني، تتآكل بشكل بنيوي. أدواتها التقليدية – كالقرارات الملزمة، فرق المراقبة، الوساطات السياسية – لم تعد تقنع الفاعلين الرئيسيين، وغالبًا ما تُستخدم فقط لشراء الوقت أو لإضفاء شرعية شكلية على الوضع القائم. وفي حالات عديدة، أصبحت البيانات الأممية تعبيرًا عن العجز أكثر من كونها أداة ضغط، مما أضعف الثقة الدولية في فاعلية المنظمة.

لكن جوهر الأزمة يتجاوز هذا القصور الإجرائي. النظام الأممي في بنيته الراهنة قائم على تصور لموازين القوة ما بعد 1945، حيث يُحتكر القرار داخل مجلس الأمن من قبل خمس قوى كبرى تملك حق الفيتو. هذا التصميم لم يعد يتناسب مع طبيعة التحولات الدولية المعاصرة: صعود قوى إقليمية فاعلة، تعدد مصادر التأثير الاستراتيجي، وتداخل النزاعات مع بنى اجتماعية واقتصادية عابرة للحدود. العالم لم يعد ثنائي القطب، ولا حتى خاضعًا لمحور واحد؛ بل بات أقرب إلى فضاء تفاوضي مفتوح، يتقاطع فيه المحلي مع الدولي، الرسمي مع غير الرسمي، والقانوني مع الواقعي.

في هذا السياق، تفقد الأمم المتحدة تدريجيًا مكانتها كمركز لإنتاج الشرعية الدولية. الشرعية لم تعد تُصنع في نيويورك، بل تتشكّل داخل مساحات مرنة من السيطرة والتحالف والوظيفة. الأطراف المسلحة غير الدولتية، القوى الإقليمية، التكتلات الاقتصادية، وحتى شبكات المجتمع المدني العابرة، أصبحت جهات تفاوض فاعلة، غالبًا ما تعمل خارج نطاق النظام الأممي. هذا التحوّل لا يُقصي الأمم المتحدة بقرار، بل يتجاوزها فعليًا، ويُعيد تشكيل مفهوم السيادة والشرعية على أسس متعددة المصدر.

ما تفتقده الأمم المتحدة اليوم ليس فقط القدرة على الفعل، بل القدرة على الاستيعاب؛ أي على تمثيل التحول العالمي ضمن بنيتها المؤسسية. ولذلك، فإن الحديث عن “إصلاح المنظمة” دون مراجعة فلسفة التمثيل والسلطة التي تحكمها، سيبقى مجرّد ترميم لكيان يفقد صلاحيته أمام مشهد دولي يتحرك خارجه. ما نحتاجه ليس إصلاحًا داخل النظام، بل رؤية جديدة لتنظيم العلاقات الدولية تُعيد تعريف أدوات الوساطة، إدارة النزاع، وبناء السلام، على أساس المشاركة المتعددة، التمثيل العادل، والتوازن بين القانون والواقع.

السؤال الاستراتيجي الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يمكن بناء نظام دولي بديل لا يقوم على المركزية القانونية، بل على لامركزية التفاهمات القارية والإقليمية؟ وهل تستطيع التكتلات الصاعدة – من الاتحاد الأفريقي إلى آسيان – أن تشكّل نواة لنظام عالمي قائم على التنسيق الأفقي لا التراتبية العمودية؟ ربما لا تكون هناك إجابة نهائية بعد، لكن المؤكد أن المرحلة الراهنة تشهد نهاية حقبة الأمم المتحدة كمرجعية مطلقة، وبداية تفكير سياسي عالمي جديد لم تتضح ملامحه بعد، لكنه يتحرّك بثبات خارج الإطار التقليدي للنظام الأممي.

إرسال التعليق