ما بعد الدولة في قلب الصراع: قراءة إدراكية للتصعيد الإيراني-الإسرائيلي

بقلم : سارة مالك

في التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل، لا تدور المواجهة في ساحات المعارك التقليدية وحدها، بل في مساحات أعمق وأكثر حساسية: من يملك القدرة على تثبيت صورته كفاعل شرعي في الإدراك السياسي الدولي. لم تعد الصراعات الكبرى اليوم تقتصر على معادلات القوة الميدانية والجغرافيا، بل باتت تُحدَّد بشكل متزايد من خلال معارك الإدراك الرمزي، حيث تُرسم السيادة من خلال الوعي الجمعي أكثر مما تُرسم عبر الحدود الرسمية.

طوال أربعة قرون تقريباً، تشكّل النظام الدولي على قواعد السيادة القانونية كما أُقرت في معاهدة ويستفاليا عام 1648، حيث من يسيطر على الأرض يمتلك الدولة. لكن في التحولات العميقة التي يعيشها النظام العالمي اليوم، يتراجع هذا النموذج تدريجياً لصالح أنماط جديدة من ممارسة السلطة، بات محورها الأساسي من يدير الإدراك العام لصالحه. في عصر تآكلت فيه أدوات القانون الدولي التقليدي، تتقدم شبكة الإدراك الرمزي بوصفها الحاكم الفعلي لصناعة الفاعلية السياسية.

تدير إسرائيل هذه المواجهة بدقة ضمن ما يمكن تسميته هندسة الإدراك الاستباقي. فكل ضربة دقيقة في العمق الإيراني ليست مجرد رسالة عسكرية، بل تعيد تثبيت صورة إسرائيل أمام الحلفاء والشركاء الدوليين بوصفها القوة العاقلة التي تحمي النظام الإقليمي من الانفجار النووي. هذه العمليات تعيد إنتاج حضور إسرائيل كفاعل سيادي عابر للجغرافيا، يمتلك قدرة مستمرة على إعادة تعريف حدود الفعل المشروع في السردية الكونية.

أما إيران، فتوظف حصارها المتواصل كمادة خام لإعادة إنتاج شرعيتها الرمزية، بوصفها دولة مقاومة تدافع عن حقها في تقرير مصيرها السيادي رغم الضغوط الهائلة. وتتمدد هذه السردية عبر شبكة حلفائها من القوى غير النظامية في الإقليم، حيث تتحول الحركات المسلحة والمنصات الإعلامية العابرة للحدود إلى أذرع رمزية فاعلة في تثبيت تمثيل النظام الإيراني داخل الإدراك الدولي، لا بوصفه مجرد لاعب إقليمي، بل كفاعل حتمي في معادلة الصراع الدولي.

تعمل كلتا الدولتين، في الوقت ذاته، ضمن منطق إنكار إدراكي متبادل. فحين تُقلل إيران من أثر الضربات الإسرائيلية، تُعيد في الوقت نفسه ترسيخ صورة الدولة المحاصَرة الصامدة أمام قوة هائلة لا تتوقف عن الضغط. وحين تُنكر إسرائيل أي ارتباك عملياتي أو أضرار جانبية في عملياتها، تُعزز صورتها كقوة استثنائية تتحرك بحرية في فضاء الخصم. الإنكار، في هذا المستوى، يتحول إلى أداة من أدوات بناء الرمزية السياسية، لا إلى مجرد خطاب دفاعي.

ما يدور، إذن، ليس مجرد تصعيد عسكري بحت، بل اختبار مباشر لقدرة كل طرف على تثبيت روايته بوصفه مركز السيادة في المخيلة الدولية. وتلعب الأذرع غير الرسمية دوراً محورياً في هذا البناء الرمزي؛ فالميليشيات العابرة للحدود، والشبكات الإعلامية، ومنصات الترويج الإقليمي، كلها تُساهم في إعادة إنتاج الحضور الرمزي لكل طرف بشكل يتجاوز بكثير نتائج الاشتباك العسكري نفسه.

تقوم هذه القراءة على ما أسميه في مشروعي البحثي “علم الإدراك السياسي لما بعد الدولة”، الذي يُعيد تعريف السيادة بوصفها وظيفة رمزية لا عقداً قانونياً صلباً. ففي زمن ما بعد الدولة، لم تعد السيادة مسألة مَن يُطلق الصواريخ أو يحتل الأرض، بل مَن ينجح في تثبيت صورته على خرائط الإدراك الجمعي للعالم.

لا يعود جوهر الحسم في هذا النوع من المواجهات إلى مَن ينتصر ميدانياً في لحظة معينة، بل إلى مَن يفرض نفسه لاحقاً كصاحب الرواية التي ستدخل كتب التاريخ وتُعتمد في تشكيل الحسابات الاستراتيجية العالمية القادمة. في النهاية، كما تكشف هذه المواجهة، الإدراك هو السيادة الجديدة

إرسال التعليق