ايران و حرب الأيديولوجيا: مغامرة تتجاوز حدود الواقع

إيران وحرب الأيديولوجيا: مغامرة تتجاوز حدود الواقع

منذ عقود، تقف إيران في موقع عدائي شبه دائم مع معظم دول العالم، في مشهد يُطرح فيه السؤال الملح: هل تسعى إيران فعلًا لتصدير “دولة الإسلام” وبسط سيادتها الأيديولوجية على المنطقة والعالم؟ أم أن هذا العداء المزمن مجرد صناعة ذكية من قوى أخرى، وارتكاب غباء سياسي داخلي من طهران نفسها؟

إيران ليست دولة هامشية؛ فهي من كبار منتجي النفط في العالم، حيث يتجاوز إنتاجها اليومي 3.5 مليون برميل، يُصدّر منها أكثر من مليونَي برميل يوميًا عبر ميناء خارك على الخليج العربي. كما أنها حليف استراتيجي لروسيا التي تغوص حاليًا في مستنقع حربها مع أوكرانيا. ومع ذلك، تظل إيران تتخذ مواقف تصادمية تجعلها، في نظر كثيرين، من أبرز صانعي الأزمات في الشرق الأوسط، خاصة عبر تمددها العسكري في لبنان، فلسطين، سوريا، العراق، اليمن والسودان، تحت شعار مقاومة إسرائيل.

هذا التمدد، المبني على سردية أيديولوجية حادة، غالبًا ما اتخذ منحىً معاديًا حتى لجيران إيران من المسلمين، وعلى رأسهم دول الخليج. وقد تبدو تلك الاستراتيجية في جوهرها امتدادًا لمشروع هندسة إقليمي أوسع، صممته القوى الكبرى منذ إسقاط شاه إيران في 1979 عبر ثورة الخميني، لتعيد تشكيل الإقليم النفطي بما يخدم توازنات القوى العالمية.

لكن إيران ما بعد الثورة، على ما يبدو، وقعت في فخ الأيديولوجيا. فبدلًا من أن تدير موقعها الجديد بعقلانية سياسية، اندفعت في مشروع عسكري–ديني يهدف للسيطرة على المنطقة عبر أذرع مسلحة ومتشددة، تحت مسمى “محور المقاومة”. هذا المحور الذي يستند إلى فكرة القضاء على إسرائيل كهدف مطلق، تجاهل إمكانية قيادة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر أدوات سياسية واقتصادية تصنع توازنات مصالح، وتفتح أبواب التعايش والسلام في الإقليم.

إلا أن القيادة الإيرانية، التي تميل للتشدد والعنف كأدوات لتحقيق الغايات، اختارت مسارًا تصعيديًا محفوفًا بالمخاطر، كان من أبرز ملامحه الانخراط في مشروع نووي يفتقر إلى تقدير سليم لعواقبه. وبذلك، تحوّلت إيران من “ثورة مخططة بعناية” إلى مغامرة أيديولوجية خرجت عن السيطرة.

اليوم، تدخل المنطقة مرحلة جديدة، حيث يبدو أن إيران على أعتاب مواجهة قد لا تقدر على تحمّلها، خصوصًا بعد تقطيع كثير من أذرعها في المنطقة. فالحرب، التي اشتعلت شرارتها صباح اليوم، ليست مجرد مواجهة بين إسرائيل وإيران، بل هي رأس جبل جليد هندسته قوى متعددة منذ سنوات طويلة. وستحمل الأيام القادمة تحولات كبرى، وقد لا يكون السودان بمنأى عنها، إن استمر التصعيد ولم تخضع طهران لقدرها المحتوم.

ما نشهده الآن هو على الأرجح فصل من مشروع أكبر للتخلص من الجماعات الأيديولوجية المسلحة، وإعادة تشكيل العالم لحقبة جديدة، تحكمها التكنولوجيا والعقل البشري، لا الأوهام الملبدة بخُطب الدم وأحلام السلاح.

إذا أردنا بناء أوطان قابلة للحياة، علينا أن نستثمر في الإنسان، في معرفته، في عقله، لا في خرافات تقودنا إلى الذبح والانهيار. فالحياة لا تُبنى بأيديولوجيا مريضة، بل يصنعها الإنسان الحر؛ ذاك الذي لا يُغطي وجهه بخرق الأكاذيب، بل يكشف ملامحه للضوء والواقع.

إرسال التعليق