السودان في مأزق المشروع الوطني : قراءة مختلفة في موقع الدعم السريع

منذ اندلاع المواجهة العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، شاعت في أروقة السياسة الإقليمية والدولية مقاربات مبسطة لمشهد سوداني بالغ التعقيد. إذ جرى تصوير الأزمة في إطار ثنائية حادة بين “دولة شرعية وجيشها النظامي” في مقابل “ميليشيا متمردة خارجة عن القانون”، وهو توصيف يختزل فعلياً عمق الأزمة البنيوية التي يعاني منها السودان منذ عقود طويلة.

والحقيقة أن الأزمة الحالية تعبير مباشر عن تراكم إشكاليات عميقة في بنية السلطة السودانية المركزية، وليست مجرد تمرد مسلح طارئ. فمنذ الاستقلال، تشكّل النظام السياسي السوداني على أساس مركزي صلب، أبقى السلطة والثروة في يد نخبة محدودة، بينما ظل الهامش السوداني بكل تنوعه الإثني والجغرافي في موقع التهميش السياسي والاقتصادي. وقد كان ظهور قوات الدعم السريع تعبيراً مباشراً عن هذا الخلل البنيوي.

ففي بداياته، ظهر الدعم السريع كقوة أمنية ذات طابع ميداني في غرب السودان، قبل أن يتحول لاحقاً إلى جزء رسمي من بنية الدولة عبر دمجه في المنظومة العسكرية بموجب قوانين صدرت خلال حكم النظام السابق. وفي مرحلة ما بعد سقوط النظام عام 2019، أصبح طرفاً أساسياً في المعادلة الانتقالية التي كانت تسعى لتقاسم السلطة بين المدنيين والعسكر. غير أن هذا المسار سرعان ما واجه مقاومة متصاعدة من داخل المؤسسة العسكرية التقليدية، التي وجدت في تحالفها المتجدد مع رموز الحركة الإسلامية وسيلة لاستعادة سيطرتها الكاملة على السلطة بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021.

من هنا، تتجاوز الحرب الحالية مجرد كونها صراعاً بين جنرالات متنافسين، بل تكشف عمق معركة السيطرة على مشروع الدولة السودانية نفسه: هل تعود السلطة بالكامل إلى المؤسسة العسكرية المركزية وتحالفاتها الأيديولوجية القديمة، أم يُفتح المجال أمام إعادة صياغة دولة وطنية جديدة قاعدتها الاعتراف بكافة المكونات السياسية والاجتماعية دون إقصاء؟

لقد سعى خصوم الدعم السريع إلى تحميله مسؤولية الانفتاح على الشراكات الإقليمية والدولية، بوصفها دليلاً على “خيانة وطنية”. غير أن هذه الرواية تتجاهل واقعاً معقداً في توازنات السودان ذاته، حيث إن مختلف الأطراف السياسية والعسكرية في البلاد باتت منذ سنوات جزءاً من شبكة الاصطفافات الإقليمية والدولية، سواء عبر التعاون الأمني، أو الاستثمارات الاقتصادية، أو التحالفات السياسية العابرة للحدود. ولعل الواقع أن خيارات الدعم السريع الإقليمية لم تكن إلا انعكاساً لمحاولته حماية موقعه في مواجهة مشروع الإقصاء الذي أُطلق ضده عقب تحالف الجيش مع الحركة الإسلامية.

الأكثر أهمية أن الدور الميداني الذي لعبته قوات الدعم السريع، لا سيما في غرب السودان، منع حتى اللحظة انزلاق البلاد نحو سيناريوهات تفكك وانفصال كانت ستكون حتمية في ظل غياب قوة ميدانية قادرة على ضبط المشهد الأمني في الأطراف. ومع ذلك، لا تُفهم هذه الحقيقة في إطار التبرير العسكري، بل باعتبارها جزءاً من معضلة السودان المركزية: غياب مشروع دولة وطنية شاملة تُمثّل الجميع دون تمييز جغرافي أو إثني.

إن الاستمرار في شيطنة الدعم السريع بوصفه العقبة أمام الاستقرار لا يساعد في فهم المعضلة السودانية بعمقها الحقيقي. فالذين يرفعون شعار “استعادة الدولة” هم أنفسهم من أعادوا تدوير شبكات الهيمنة العسكرية والدينية القديمة، وأجهضوا المشروع المدني الانتقالي الذي كاد أن يفتح الباب أمام دولة سودانية مدنية متعددة المراكز.

يبقى أن الاعتراف بالواقع السياسي كما هو على الأرض ضرورة لأي تسوية وطنية جادّة. لا يمكن تصور حل دائم في السودان يتجاوز الدعم السريع أو أيّاً من القوى الفاعلة الأخرى. لقد أكدت التجارب السودانية السابقة أن إقصاء أي مكوّن من معادلة الدولة لا يؤدي سوى إلى إعادة إنتاج العنف والصراع، وهو ما يدفع السودان ثمناً باهظاً له منذ عقود.

إن مأزق السودان اليوم هو مأزق مشروع الدولة ذاته: فإما إعادة إنتاج المركزية القديمة تحت لافتة جديدة، أو الشروع في تأسيس عقد وطني شامل يضمن لجميع المكونات حقها في المشاركة السياسية الكاملة. وفي هذا السياق، لا ينبغي التعامل مع الدعم السريع كخطر يجب تصفيته، بل كجزء من معادلة وطنية يجب استيعابها ضمن مشروع دولة تتسع للجميع

إرسال التعليق