الحرب الإخوانية و استعلان التوحُّش
الحرب الإخوانية واستعلان التوحُّش
النور حمد
منذ أن أشعل الإخوان المسلمون وجيشهم المؤدلج حربهم اللعينة على ثورة ديسمبر، عجَّت وسائط التواصل الاجتماعي بعديد الصور التي حملت للناس صنوفًا من التوحش بالغة الفظاعة. وهي صورٌ سبق أن قرأ كثيرون منا عنها في كتب التاريخ. ولربما ظنَّت أكثريتنا أننا قد خلَّفنا هذه الأنماط من الوحشية وراءنا، وأن سُدف أزمنة العصور القديمة التي ثوت واندثرت قد طوتها معها في طياتها. لكن، يبدو أن التوحش، في مجمل الحال، يتناقص لكنه لا ينتهي تماما. فما تبقى منه انحصرت غالبيته في توحُّش بعض مكونات الجيوش حين لا تتقيد بأخلاقيات الحرب وقواعدها. أما ما أشاعه الإخوان المسلمون من توحُّش في هذه الحرب اللعينة الجارية الآن فأمرٌ نادر الشبيه. فقد خرجت هذه الظاهرة على أيديهم القذرة الملوثة بدماء الأبرياء من حيِّز توحُّش الأفراد المتفلتين في بنيات الجيوش الاحترافية المختلفة، ليندلق التوحُّش وسط الأفراد المدنيين من ذوي البنيات النفسية المعتلة. وهؤلاء جرى انتقاؤهم وتجنيدهم وغسل أدمغتهم بخطابٍ دينيٍّ منحرف، وقد كان الغرض من إنشائها بث الرعب ونسف كامل بنية الأمن بغرض إخضاع الجميع. ولقد لخص النائب السابق للرئيس البشير، علي عثمان محمد طه دور مغسولي الدماغ في بث الرعب، في مقابلته مع الطاهر حسن التوم في بدايات الثورة، حين بان له أن أعمدة معبد الظلم والفساد والاستبداد الذي بناه هو وقبيله قد أخذت تتهاوى. فقال: “الآن، هذا النظام تحميه كتائب ومجموعات هي على استعداد للتضحية …. هناك كتائب ظلٍّ كاملة يعرفونها. وأحسن نقول ليهم هي موجودة تدافع عن هذا النظام”. وهي لم تسمَّ “كتائب ظل” إلا لأنها تعمل خارج مؤسسة الجيش. ومهمتها هي حماية النظام من هبات الشعب، وأيضًا من الجيش نفسه، إن هو خرج عن الطوع.
صناعة التوحُّش
ما يمكن أن يجري فهمه تلقائيًا مما تقدم من حديث علي عثمان محمد طه، الذي هدد فيه قادة الجيش وعامة الشعب في آنٍ معًا، بسطوة كتائب الظل وبطشها، أن نظام الإخوان المسلمين قد جاء ليبقى، إلى أبد الآبدين. وأن هذه الكتائب مستعدة لفعل كل شيء لتثبيت أركان النظام أمام أي فعلٍ أو حراكٍ يهدد بقاءه، ولو اقتضى ذلك استخدام ما أسماه كل من الفريق عبد الفتاح البرهان والفريق ياسر العصا “القوة المميتة”. وهذا هو ما أثبتته التحقيقات الأمريكية وجرى بناءً عليه إعلان العقوبات. ولا يزال الناس في مدينة أمدرمان يموتون يومًا من تسرب أبخرة هذه القوة المميتة. لقد قام الإخوان المسلمون، منذ مجيئهم إلى السلطة، باختيار مجاميع منتقاةٍ من الشباب من ذوي الفطرة غير السوية. وقاموا بإعدادهم عبر برامج تدريبية طويلة مكثفة، ليصبحوا وحوشًا كاسرة، تستلذ برائحة الدم، وبمرأى الأشلاء البشرية المبعثرة، وبرؤية البشر وهم يغالبون أقسى آلام التعذيب الرهيبة البطيئة الطويلة التي تصل إلى الموت. هذا ما ظل يفعله ضباط جهاز الأمن الذين جرى إعدادهم لممارسة تعذيب الخصوم السياسيين التي تبلغ أحيانًا حد إماتة من يجري تعذيبه. وهي أفعالٌ ظلت تجري على مدى عقودٍ في معتقلات الأمن، وفي ما سُمِّيت “بيوت الأشباح. وهذا ما تقوم به حاليًا كتائب البراء بن مالك ورديفاتها في هذه الحرب التي بلغت بهم فيها الاستهانة بأرواح الناس حد استخدام الأسلحة الكيميائية، وربما الجرثومية.
أكاد أجزم أن أكثرية السودانيين الأحياء، ما كانوا يظنون قط أن يشهدوا في حياتهم ما فعلته هذه الفئة من المرضي النفسيين، الذين يقتلون النساء، والأطفال، ويبقرون بطون الحوامل، وينتزعون الأجنة من الأرحام ويلقون بها على الأرض، ويجذبون أمعاء القتلى من بطونهم المبقورة، ويقطعون الرؤوس بالمدي الطويلة، وبالفوؤوس أحيانا. بل ويحملون الرؤوس المفصولة عن أجساد أصحابها، مهلِّلين مكبِّرين، في نوباتٍ مرضية من الهستيريا واليوفوريا العنفية الفظة الفظيعة. وقد رأينا في واحدة من هذه الفيديوهات الشنيعة أحد هؤلاء السقماء المعتوهين وهو يدخن لفافةً من البنقو، وللمفارقة، مع التهليل والتكبير، ضمن واحدٍ من تلك المشاهد البربرية البشعة لرأس شابٍ مقطوع مرفوعٍ أمام الكاميرا.
حين أستخدم كلمة “الجيش” هنا، فإنني لا أستخدمها إلا تجوُّزا. فما تبقى من هذا الجسم المهترئ الذي كان يسمى في الماضي جيشًا لم يعد هناك. بل هو أصلاً لم يكن في يوم من الأيام جيشًا للوطن، وإنما أداةً لمجموعةٍ متسلطةٍ من أهل المصالح، وللقوى الخارجية، وعلى رأسها الأنظمة المصرية. كما ظل على الدوام مطيةً ذلولاً للأنظمة العربية الكارهة للديمقراطية. وقد انتهى الأمر بقادته الآن إلى أن يصبحوا رهائن لدى الكتائب الداعشية، ولمليشيات الارتزاق الدارفورية. هذا الجيش ليس سوى عصابة من الجنرلات الذين يحرسون بالسلاح والعنف والإرهاب مالاً وفيرًا نهبوه بالتسط واكتنزوه واقتسموه مع قيادات الإخوان المسلمين عبر ما يزيد عن الثلاثة عقود. وكل هؤلاء، إلى جانب ذلك، عصابةٌ، مدت أذرعها عبر شبكات المصالح لشركاء إقليميين يماثلونهم في الطبيعة. وهم الآن من يشدون من أزرهم ويدعمونهم.
التوحُّش المغروس بالخطاب الديني
بعض المثقفين الذين انبروا للدفاع عن* هذا الجيش، بوصفه مؤسسة وطنية ذات تاريخ عريق، وأن من الممكن إصلاحها، غابت عنهم حقيقة أساسية وهي الأدلجة بالخطاب الديني المنحرف التي جعلت من هذا الجيش مجرد كتيبة داعشية الطابع. فقادة هذا الجيش تابعون أصلاً لتنظيم الإخوان المسلمين، وقد تعرضوا لدوراتٍ تدريبية مكثفة في جامعة إفريقيا العالمية التي تفرِّخ المتطرفين الداعشيين لإفريقيا. هذا بالإضافة إلى الدورات التدريبية في الأكاديمية العسكرية العليا التي يجري فيها، أيضًا، غسيل الأدمغة بالخطاب الديني المنحرف. فالتوحش الذي يظهر من كتائب البراء بن مالك أمرٌ مَرْضِيٌّ عنه تماما من قادة الجيش. فنحن لم نسمع منهم، ولا مرة واحدة، استنكارًا لما تقوم به هذه الكتائب من فظائع وبشاعات. فعلى الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى، بصورةٍ حاسمةٍ، عن القتل بغير حق وعن التمثيل بجثث الموتى، فإننا نجد أن هذه الكتائب تقوم بتلك الأفعال الشنيعة اللاإنسانية، بابتهاج شديد. ويقابل قادة الجيش كل تلك الأفعال بصمتٍ يدل على الرضا والقبول والمباركة. ولا يختلف الأمر إن كان ذلك الصمت نتيجة للخوف من هذه الكتائب، أو تعبيرًا عن الرضا بأفعالها، فالأمر سيان. ما يقف وراء ذلك التوحش والبربرية، في تقديري، أمرٌ واحدٌ وهو انتحال سلطة المقدس. فهؤلاء القوم يظنون أنهم وكلاء الله على أرضه وأنهم مفوضون من قبل السماء وأن كل ما يفعلونه إنما هو تطبيق لإرادة السماء. وليت المدافعين عن هذا الجيش الداعشي علموا أن هذا الجيش مصاب بداءٍ عضالٍ لا شفاء منه. لذلك، دعونا نضع نصب أعيننا ضرورة تأسيس جيشٍ مهنيٍّ جديدٍ، لا ينتحل سلطة المقدس. جيشٌ يؤمن بالدستور وبالديمقراطية ولا يتدخل في أمر السياسة ولا يخلق لنفسه بنياتٍ اقتصاديةٍ موازيةٍ لا رقابة للدولة عليها.
أعلم جيدًا أن البعض ربما تساءلوا: لماذا لم تُشر إلى حوادث التوحش التي قامت بها قوات الدعم السريع، وقد كان آخرها وضع بعضٍ من جنود الجيش وربما القوات المشتركة أو كتائب البراء تحت إطارات مركبةٍ عسكريةٍ والسير بالمركبة فوق أجسادهم؟ وأقول، بلا أدنى مواربة، أن هذا الفعل مستقبحٌ ومستنكرٌ إلى أقصى درجات الاستنكار. لكن الفارق أن قيادة قوات الدعم السريع لم تنكره. بل، استنكرته وأعلنت أنها بصدد التحقيق فيه ومعاقبة الجناة الذين قاموا به. فهل استنكرت قيادات الجيش أيًّا من حوادث القتل خارج القانون واسعة النطاق التي جرت على أساس اللون والعرق واللكنة إلى جانب التهم الجزافية بأن المعتدى عليهم متعاونون مع قوات الدعم السريع؟ لقد جرت سلسلة متصلة من الفظائع الشنيعة في كلٍّ من الدندر وسنجة وسنار وودمدني وكنابي الجزيرة والعاصمة؟ فهل حدث أن استنكرت قيادات الجيش أو قيادات الإخوان المسلمين أو صحفيوهم المأجورون حوادث التمثيل بالجثث والعبث بالجماجم وبقر بطون الحوامل وجز الرؤوس والاحتفال بعرضها؟ وهل وعدت قيادة الجيش، ولو مرة واحدة، بالتحقيق فيها ومعاقبة مرتكبيها؟ لابد في نظري من التفريق بين التوحش البدوي الفردي، والتوحش المؤسسي الذي تسنده عقائد دينية منحرفة ترى في نشر الرعب أداة لإخضاع الناس لحكمٍ طاغوتيٍ استبداديٍّ مستدام. لذلك أرجو ألا يقع المثقفون وغير المثقفين ضحايا للآلة الإعلامية الكيزانية المضللة، ويصبحوا من ثم سندًا للعنف والإرهاب المؤسسي وللديكتاتورية التي تلتحف قداسة الدين، ممهدين لها طريق العودة لتجلس فوق رقاب الناس من جديد، ولات حين مندم.
إرسال التعليق