محمد ضياء الدين : أثر الانقسام المجتمعي على الوحدة التنظيمية والسياسية للأحزاب وعلى مستقبل التحول الديمقراطي
أحدثت الحرب شرخ عميق في بنية المجتمع السوداني، ومما لا شك فيه أن هذا الأثر السلبي قد إنعكس بوضوح على التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني ولجان المقاومة على حدٍ سواء. وفي هذا السياق، وجدت هذه القوى الحية نفسها أمام واقع جديد فرضته تداعيات الحرب، خاصة مع الإنتهاكات الواسعة التي طالت المواطنين في مناطق شتى. هذا الواقع دفع ببعض منسوبي هذه القوى إلى إتخاذ مواقف منحازة، فالبعض إنساق وراء تجاربه الشخصية أو معاناة أسرهم، بينما تحكمت في آخرين دوافع قبلية ومناطقية. كما أن خطاب الحرب والكراهية أسهم بشكل كبير في تشكيل مواقف البعض بوعي أو بدونه. ومع تفاقم التهديدات الأمنية وانهيار منظومات الحماية، إنخرط البعض في حمل السلاح والانضمام لصفوف المليشيات المحلية للدفاع عن النفس والأهل كضرورة ملحة، رغم مخاطر هذا التسليح في ظل غياب الدولة.
وعلى إثر ذلك، ومع إتساع رقعة الحرب، إنحدرت بعض الأحزاب والتنظيمات المدنية إلى تبنّي موقف داعم لأحد أطراف الحرب، الأمر الذي أدى إلى إفقادها جزءًا لا يُستهان به من عضويتها وقاعدتها التي إنحازت بدورها للطرف الآخر لأسباب مختلفة، أو للموقف الداعي للسلام وإنهاء الحرب. وبصورة مماثلة، تكرر هذا التصدع داخل أحزاب أخرى. وحتى التنظيمات التي تبنّت موقف واضح ضد الحرب لم تسلم من التفلتات الفردية وإن كانت بنسب أقل، نتيجة العوامل المشار إليها في أعلاه. ولم يقتصر هذا الانقسام على الأحزاب، بل طال أيضاً منظمات المجتمع المدني ولجان المقاومة والحركات المسلحة. والأدهى من ذلك كله، أن القوى التي تخوض الحرب ذاتها شهدت إنشقاقات واسعة، وعلى رأسها التيار الإسلاموي وحزب المؤتمر الوطني المحظور.
إن هذا الإرتباك السياسي يُظهر بوضوح هشاشة البنية الحزبية التي لم تتعافَ بعد من آثار مواجهة النظام الساقط، لذلك إنعكست هذه الوقائع بوضوح في إضعاف تأثير الخطاب السياسي المناهض للحرب، بتأثير لا يقل عن تأثيرات العوامل المضادة الأمنية والعسكرية والنزوح واللجوء. ونتيجة لهذا الإرباك في بنية بعض الاحزاب سياسياً وتنظيمياً، تعثر بناء جبهة شعبية عريضة من أجل السلام والديمقراطية، على الرغم من الحاجة المُلحة إليها لإنهاء الحرب وإستعادة المسار المدني الديمقراطي ولتفعيل الحراك الجماهيري القاعدي.
نتيجة لذلك، تشير المؤشرات إلى تبعات قد تبدو خطيرة ما لم يتم تدارك هذه الظاهرة على مستقبل الخيار الديمقراطي بشكل عام، وعلى ديناميكية القوى الحية في المجتمع السوداني. وعلى رأس تلك المخاطر يأتي تفاقم الانشقاقات داخل المكوّنات المدنية، وتراجع نفوذ الأحزاب “خاصة التقليدية والإسلامية” في مناطقها التقليدية، وإتساع دائرة العزوف عن الأحزاب والنشاط العام. وفي حال إستمرار هذا المسار دون معالجة جادة على المستويين التنظيمي والسياسي الداخلي، وعلى مستوى العمل المشترك، ستتقدم البندقية لتحتكر المشهد السياسي، الأمر الذي قد يشجع الأجهزة النظامية والمليشيات على مزيد من إقصاء القوى المدنية.
وأمام هذا الواقع المُعقد، يصبح من الضروري أن تتواضع القوى السياسية والمدنية أولاً لمعالجة بيتها الداخلي لضمان وحدتها التنظيمية والسياسية والفكرية، واتخاذ الموقف الوطني الصحيح الرافض الحرب رغم تبعاته. هذا الإجراء سيمكنها من إستعادة دورها الوطني ومن الإسراع في بناء جبهة شعبية عريضة ببرنامج واضح وخطاب إعلامي موحّد وموقف مبدئي ضد الحرب ودعاتها، كضرورة ملحة لتفعيل أدوات النضال السلمي المشترك وإستعادة زمام المبادرة وتطوير وسائل العمل السياسي والنضالي على أسس جديدة مبدعة تتلاءم مع ظروف المرحلة وتعقيداتها، لإعادة الإعتبار للحركة الجماهيرية وللحراك القاعدي المنظم. ويظل هذا الواجب المشترك ضرورة قصوى لا مناص منها لمعالجة هذه التداعيات السالبة قبل أن يصبح التعامل معها أكثر تعقيداً وتكلفة، سواء على المستوى الداخلي للأحزاب أو على مستوى العمل المشترك، بل وعلى مستقبل التحول المدني الديمقراطي.
ورغم كل التعقيدات، يظل الأمل قائماً ما دامت هناك إرادة حقيقية لبناء سلام عادل ومسار ديمقراطي مستدام يعيد للسودانيين ثقتهم في قواهم الوطنية والديمقراطية الحية وفي قدرتهم على إستعادة وطنهم من قوى الحرب والتمزق.



إرسال التعليق