إسماعيل هجانة : تسابيح تخطف الاضواء في الفاشر…حين تلمس الكلمة جرح الوطن
تسابيح المبارك إعلامية تعرف جوهر الرسالة وقيمة الصوت حين ينبع من ضميرٍ حيّ لا من توجيهٍ مصطنع. منذ اندلاع الحرب ظلّت تقف في صف البسطاء والضعفاء، ترفع الكلمة سلاحًا في وجه الظلم، وتحوّل المهنة إلى موقفٍ أخلاقيّ يتجاوز حدود الشاشات ونشرات الأخبار. حملت أوجاع الناس في صوتها ورسالتها، وواجهت جبروت الدولة المنحازة كما تواجه الحقيقة ضباب التضليل، فكانت لسان المكلومين وضمير النازحين ورفيقة الطريق إلى المجهول.
خطواتها نحو دارفور لم تكن رحلة إعلامية، كانت بمثابة عبورٌ إنسانيّ إلى عمق المأساة. في لحظة تماسّ غير مسبوقة، تجاوزت الحدود التي رسمها السياسيون والمتحكمون في هندسة الصورة والكلمة، ومضت إلى الفاشر وطويلة لتضع الحقيقة أمام العالم، لا ببرودة التقارير بل بحرارة الصدق وقوة الالم. جاءت واثقة تحمل كاميرا الوعي، ووجد الناس فيها ما يشبه النسمة في عزّ القيظ، تسكن الجرح ولا تثير الغبار، وتعيد الاعتبار لإنسانٍ أنهكته الأكاذيب وصور الذكاء الاصطناعي التي شوّهت الوعي وضلّلت العالم. انكشفت حملات التضليل وسقطت معها أقنعة الزيف حين فضحت مؤسسات كبرى التزييف العميق الذي استخدم الفيديوهات والصور المكرّرة لتشويه الحقيقة وتزييف الزمان والمكان لخدمة رواياتٍ سياسية خادعة.
في الفاشر، وفي طويلة التي تحتضن الفارين من نيران الحرب، تحوّلت الصورة إلى فعل رحمةٍ حيّ، تتحدث فيها العيون قبل الكلمات، وتعبّر الوجوه عن رسائل لا تنقلها الأقمار الصناعية. امرأة ترفع ثوبها لتكتم دمعها، وطفلٌ يقف شامخًا أمام العدسة كأنه يعلن أنه ما زال يرى الأمل في وجهٍ أضاء له العالم. حضورها بين الناس تحول إلى جلسة دعمٍ نفسيّ واجتماعيّ، لم تكن كاميرا بقدر ما كانت قلبًا مفتوحًا. حلق الناس حولها يتغنون بالفرح وسط الألم، فكانت تسابيح الإنسان قبل الإعلامية والصحفية، تسابيح من نورٍ وصدقٍ ودفءٍ إنسانيّ يلامس الأرواح قبل الأعين.
اللقاء الذي جمعها بالناس كان مرآةً للإنسان في صفائه الأول، وجسرًا بين القلوب المتعبة والعالم البعيد. المرأة القادمة من بعيد جاءت بلا بهرجة، تحمل فقط صدقها وعدسةً عادلةً تنقل ما تراه كما هو. هناك، بين خيام النزوح وأنين المكلومين، وُجدت قلوبٌ أنهكتها الحرب لكنها لم تفقد كرامتها. في تلك اللحظات تحولت الفاشر من ساحة حرب إلى بؤرة وعي واحتفاء بالحياة، ووجدت النساء اللواتي فقدن أبناءهن عزاءً صادقًا، وعدًا بأن وجوههن وحكاياتهن لن تُنسى.
هذه ليست صورة تبحث عن سبقٍ إعلاميّ، إنها نقطة ضوء تمسح غبار الخراب، وتعيد للناس شعورهم بأنهم ما زالوا يُرَون، بأن وجعهم له معنى، وبأن إنسانيتهم ما زالت تنبض في ضميرٍ ما على هذه الأرض. في صمتهم الطويل، وفي ابتساماتهم المتعبة، تختبئ كل معاني الصمود التي لا تراها الشاشات، لكنها تُحسّ حين تقترب القلوب من بعضها.
جلست معهم، بين الأنقاض وتحت ظلّ شجرةٍ أنهكها العطش، تشاركهم الحديث والضحكة ونبض الحياة، فتتكوّن الصورة الأجمل:
صورة الإنسان السوداني حين يواجه الألم بإيمانٍ عميق وضحكةٍ خجولة، ينهض من الرماد ليصافح الحياة رغم الجراح.
وهنا يتجلى المعنى الحقيقي للإعلام الإنساني — أن تكون جزءًا من الحكاية، أن تحياها لا أن ترويها، وأن تحملها في الضمير لا في تقريرٍ بارد، وأن تنحاز للإنسان في زمنٍ ضاع فيه معنى الانحياز للحق.



إرسال التعليق