الدعم السريع بين نُذُر التحرير و شَرك التكرار
في هذا الأفق السياسي المأزوم، تبرز قوى جديدة تحمل أملًا لملايين السودانيين على هامش الدولة والمجتمع: قوات الRSF ، التي خرجت من رحم الاحتجاج على التهميش، لا تزال تمسك بفرصة نادرة لصناعة تحوّل نوعي في معادلة السلطة والهوية في السودان.
لكن، هل تكفي نوايا حمدان الطيبة وحدها للنجاة من لعنة التكرار التاريخي؟
لقد درج خطاب “نخبة 1955” بشقَّيها العسكري والمدني على احتكار تمثيل السودان، وفق نظرة فوقية مركزية تضرب بعرض الحائط تعقيدات الهوية السودانية وتنوّعها الثقافي والاجتماعي.
واليوم، ونحن نشهد صعود قوة تنتمي بنيويًا إلى الهامش، تتجدد الآمال في ميلاد مشروع تحرّري يزعزع توازن القوى القديم.
لكن بين الأمل والواقع، تقف معضلة الفكر والتنظيم، وهي المعضلة التي ستحدد ما إذا كان الRSF سيتحوّل إلى مشروع تحرري حقيقي، أم إلى نسخة جديدة من ذات المنظومة التي ثار ضدها.
لقد لمستُ في خطابات الجنرال محمد حمدان نبرة تحرّرية، مماثلة لتلك التي بشّر بها الدكتور جون قرنق في بور عام 1983، حين قال:
“لسنا نُحارب الشمال كجغرافيا، بل كمركزية إقصائية تحتقر الأطراف.”
لكن ما يعيق هذا المسار اليوم هو صعود نخب تُطلق على نفسها “مثقفي الRSF”، تُعيد – بوعي أو بدونه – إنتاج ذات الذهنية التي قامت الثورة ضدها: عقلية الوصاية، والزعيم المقدّس، وتقديس الشكل على حساب الفكرة والمعتقد.
يعتقد المتلقي والداعم للمشروع أن “المثقف” هو من صاغ جملة منمّقة، أو التقط صورة مع القائد “أدرحيم”، أو تضاعف عدد متابعيه بعد تغريدة مدح. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير. المثقف الحقيقي هو من يُنتج معرفة تُزعزع السائد، ويطرح بدائل لا تُكرّس القائم.
لقد أخفقت القيادة حتى الآن في بناء مدرسة فكرية موازية لقوتها العسكرية، وأهملت بصورة واضحة التنظيم السياسي والتدريب الفكري، وتركَت الحقل مفتوحًا لأصوات أقرب إلى “مروّجي صور” من أن يكونوا بناة وعي أو صنّاع أيديولوجيا.
إن التيار التحرري، وهو ينطق باسم أمل جديد للهامش السوداني، يرى أن اللحظة لا تحتمل المجاملة. ما لم يُؤسّس الRSF لمركز تفكير، وخطاب نقدي داخلي، وحرية مبدئية في التعبير عن الخلاف، فإنه ماضٍ – بغير قصد – في طريق يُعيد إنتاج نُسخ جديدة من “نخبة الخرطوم”، لكن هذه المرة بلكنة دارفورية.
في مصر، حين ظهر الإخوان المسلمون، لم يكن الأمر مجرد تنظيم، بل مشروع أيديولوجي صاغه مفكر كـ “حسن البنا”، قدّم سردية للهوية والدولة والسياسة، وأعاد تقديم “الدين” كمنصة تعبئة شاملة.
نحن في حاجة مماثلة إلى مفكر تحرّري سوداني جديد، لا يُجيد فقط لغة الاحتجاج، بل يُنتج أطروحة تنقل الRSF من مجرد قوة عسكرية إلى مشروع وطني متكامل.
لقد قال جورج أورويل – وأنا من أشدّ معجبيه:
“الولاء المطلق يعني انعدام الوعي.”
وأنا أقول:
من لا يُنتج فكرًا، سيُستلب فكره، ومن لا ينقد ذاته، لن يكون سوى استنساخٍ لقاهريه
إرسال التعليق