وادي حلفا : ذاكرة الغرق و صرخة في وادِ الصمت

مأساة وادي حلفا لم تكن وليدة سياسات الحكومة السودانية فحسب، بل هي نتيجة مباشرة لحقبة استعمارية خلطت الأوراق بين مصر والسودان، ولعبت فيها النخب العميلة دور الوسيط الصامت والخانع.

وادي حلفا ليست مجرد منطقة نائية، بل جرح مفتوح في ذاكرة وطن، وقضية ظلت لعقود تُطوى وتُهمّش عمدًا حتى أصبحت رمزًا للتجاهل الرسمي والتواطؤ التاريخي. فهي ليست مجرد “وادي حلفا” وإنما “صرخة في وادِ الصمت”.

مطالب أهل وادي حلفا اليوم ليست صرخة في فراغ، بل امتداد طبيعي لمعاناة بدأت منذ لحظة غمر مياه السد العالي لمنازلهم ومزارعهم ومدن أجدادهم. تلك اللحظة التي تواطأت فيها حكومة ما بعد الاستقلال مع مشروع بناء سد مصري، وهم يعلمون أنه يسلب مواطنًا في دولتهم حقه في الحياة. تواطأت من أجل العمالة، تاركة شعبًا بأكمله يواجه التهجير، والتاريخ الذي يُغرق أمام عينيه بلا مقاومة.

ما تلقّاه أهالي وادي حلفا بعد هذا الجرح كان تعويضًا باهتًا لا يرتقي لحجم الفقد، وكان من ضمنه وعدٌ بتوصيل الكهرباء من ذات السد الذي تسبب في تهجيرهم. كانت هذه الكهرباء – ولو شكليًا – عزاءً رمزيًا في مقابل كل ما سُلب، لكن حتى هذا العزاء لم يسلم!

فاليوم، تُدرَج وادي حلفا في برمجة قطوعات الكهرباء بشكل تعسفي، بل ويتم فصلها بالكامل دون أي تبرير موضوعي، وكأن أهلها خارج خريطة الدولة، أو أنهم متسولون على هامش شبكة السد الذي أُقيم على أنقاض وجودهم!

الأدهى من ذلك أن والي نهر النيل، التي تتبع لها حلفا إداريًا، هو من أصدر قرار فصل الكهرباء وإدخالهم في برمجة القطوعات، متجاوزًا كل منطق العدالة أو المسؤولية، في وقت يعيش فيه الناس ظروفًا إنسانية واقتصادية خانقة. وأهل وادي حلفا، دون غيرهم، كان لهم القدح المعلى في استقبال النازحين والفارين من جحيم الحرب.

الربط الإداري الجائر بين وادي حلفا وولاية نهر النيل لم يكن يومًا خيارًا لأهل المنطقة، بل كان إجراءً فوقيًا لا يراعي الجغرافيا ولا التاريخ ولا احتياجات السكان.

واليوم، يطالب أهالي وادي حلفا لا بالانفصال كما يُروّج البعض، بل بفك الارتباط الإداري عن ولاية نهر النيل. مطلب بسيط، منطقي، وعادل. فهم لا يطالبون بالخروج من الدولة، بل يطلبون فقط أن تُنصفهم، أن تُعيد لهم حقّ اتخاذ القرار في شؤونهم، وأن تُعاملهم كباقي المواطنين، لا كحاشية مهمّشة في دولة لا تراهم.

صوت حلفا ليس نشازًا في الوطن، بل هو جزء أصيل من نسيجه. صوته لا يطالب بالتقسيم، بل بالإنصاف.

فهل من مجيب؟

إرسال التعليق

لقد فاتك