مليح يعقوب : حول إشكاليات الثقافة السياسية السائدة في السودان. - صوت الوحدة

مليح يعقوب : حول إشكاليات الثقافة السياسية السائدة في السودان.

هنالك خلل كبير فى الطريقة التي ينظر بها السودانيون إلى إدارة الدولة والسياسة والمشاركة السياسية، ونحسبهم جميعاً قد تم تجهيلهم وتغبيش وعيهم فوقعوا ضحايا للثقافة السياسية السائدة في السودان، القائمة على الولاء والطاعة وحب النفس والذات، والتي أنتجتها النخبة النيلية، وبعد أن استثمرت في التقاطعات الأيديولوجيّة والدينيّة والأستعماريّة والجهويٌة، ونقلت تلك الثقافة السياسيّة السيئة والرديئة، وعبر أحزابها المركزيّة (الحاكمة والمعارضة)، من صفة التخصيص إلى صفة التعميم، ونشرتها وسط قطاعات كبيرة من الشعب، ومن أبرزهم الفلنقايات، وعبيد المركز وحملة الأباريق.
الإسلاميون عموما يعتبرون أوسخ طبقة سياسيّة في السودان، وأوّل من نشروا ثقافة التطرّف والإرهاب الفكري والأيديولوجي في وسط العامة، والجامعات، وأسرفوا في المراوغة والاستهبال وحب السلطة والجاه والمال، وغرقوا في الفساد الإداري والأخلاقي، ومارسوا الاقتصاد الطفيلي ونشروا الرعب والجريمة، وقتلوا الشعب على أساس الهوية والثقافة والعرق واللون والقبيلة.
إن النخبة المركزية الحاكمة والمعارضة والمنتشرة على عموم ولايات السودان، نعتبرهم نكبة من نكبات السودان، وبالأخص الفلول والكيزان، وبالإضافة إلى الانتهازيين من أبناء الجلّابة المحسوبين على نهر النيل وبالأحرى من الشوايقة والجعليين والذين يمثّلون القاسم المشترك في جميع الصراعات السياسيّة والعسكرية الحاصلة في السودان، وهم الثابت الوحيد في مركز الدولة، بينما الآخرون عبارة عن متغيرات، ويتم إشراكهم في السلطة على سبيل الترميز والتضليل، وقد برعوا في تجهيل الناس وتغبيش وعيهم من أجل أن يتم استخدامهم كدروع بشريّة لحماية عروشهم وحكامهم وجبروتهم، وقد لعبت حكومة بورتكيزان على كل التناقضات، واستقوت بالمليشيات واستخدمتها كأدوات قمعيّة ضد الثّوار ومحاربة الأشاوس والأبطال والأحرار حيث استعان الكيزان بمرتزقة من دارفور ويقودهم جبريل ومناوي، ومرتزقة من البطانة ويقودهم كيكل، والمرتزقة الأريتريون، بالإضافة إلى البراءون والدواعش الذين يقودهم المصباح، وهكذا إلى أن تمكّنوا من تذويب الجيش في داخل المليشيات الإرهابية المتحالفة معهم، وقد لعبت الثقافة السياسيّة السائدة في السودان دوراً بارزاً فى انفصال الجنوب مع استمرار الحروب في ما تبقّى من السودان، وصولا إلى مرحلة الحرب العبثية الدائرة بين قوات الدعم السريع وكيزان الجيش.
يمتلك السودان وبصفة عامة بيئة سياسية معقّدة وقائمة على الولاء والطاعة والاستتباع، ويغلب عليها الطابع الأمني المصحوب بالجمود الفكري والسياسي، ولم تشجع تلك البيئة إطلاقا على الابتكار، أو الإبداع، وقد نشأت الأحزاب النيليّة في تلك البيئة السياسيّة المعقّدة، وعجزت عن معالجة اختلالاتها، بعد أن فقدت شغفها السياسي المعهود، وغابت عنها القدرة على الابتكار ، وتحوّلت أحزاب الجلابة من منصات للإنتاج الفكري والسياسي، إلى مؤسساتٍ لِخَمِّ الناس، ثم حكمت على نفسها بالموت البطيء حين أهملت التنوّع الثقافي والعرقي وحوّلته من مصدر للقوّة والثبات إلى مدخل للاختلاف والنزاع، كما اختزلت الدولة فى نفسها وفصّلت السياسة على مقاسها، مما يدفعنا إلى الطعن باستمرار في عدم نزاهتها والتشكيّك في قدرتها على قيادة الشارع، مع الأخذ في الاعتبار أن أبناء الوسط والشمال النيلي نالوا نصيبهم الأكبر من الامتيازات التاريخية، ووجدوا حظهم في التنمية والصحة والتعليم والدراسة، كما احتكّوا بالمستعمر وتعلّموا منه كيفية إدارة الدولة والمؤسسات، وسيطروا على الثروة والسلطة والوظائف، وعلى حساب الهامش السوداني العريض والذي ظل يعاني من ويلات الحروب والاضطهاد والتهميش، ولايمكننا إعفاءه هو الآخر من المسئوليّة بوصفه قد كان في السابق وقبل نشوب الحرب بين الدعم والكيزان، كان يعاني من بعض المزايا السالبة والتي أعاقت وحدته، ومن ضمنها غياب الرؤية والمشروع والتنازل الطوعي عن الحقوق، والانقسام الإداري والمناطقي والجهوي، وقد كرّس الكيزان لتلك الوضعية عبر سياسات فرّق تسد، وأضرب العبد بأخيه وسعوا إلى تفكيك الأحزاب ومصادرة الحريات الخاصة والعامة، وأحدثوا فراغا كبيرا في الساحة السياسية، وعجزوا عن سدّه؛ فأوصلوا البلاد والعباد إلى مورد التهلكة والضياع.
إن من حسنات هذه الحرب العبثية أنها قد قلبت موازين اللعبة السياسية، وكسرت القيود الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية المفروضة على الشعب، وغيّرت نظرته إلى مفهوم السلطة والدولة والحكومة والسياسة والثقافة والأرض والهويّة، وأنجبت تلك الحرب مشروعاً سياسيا مكتمل الزوايا والاركان، ويقوده تحالف السودان التأسيسي، والذي قد تبني خيار الفيدرالية والعلمانية والتنمية المتوازنة كبديل سياسي وحتمي لكل التجارب السياسية السابقة.
إن مشروع تأسيس وعلى المستوى النظري والفكري نعتبره هو المشروع الاقوى في الساحة، ولكن على المستوى العملي والتطبيقي قد يصطدم بكثير من العقبات والمتاريس، ونجاحه يعتمد على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، مع اختيار الكفاءات الوطنية القادرة على إحداث التغيير المنشود، كما برز في الساحة ومن خلال هذه الحرب، تحالف الصمود الهارب من أرض المعركة فور اندلاعها بعد أن شارك بطريقة أو بأخرى في صناعتها ولكنه تنصّل عن مسئولياته واحتمى بدول الغرب والجوار مراهنا عليها لاسترجاع مصالحه السياسيّة، واستعادة امتيازاته التاريخية والتي قد فقدها بسبب هروبه غير المبرر من الميدان، وقد اهتدى تحالف صمود بالمثل الشعبي الذي يقول: (يسوّيها أولاد الحرام ويقعوا فيها أولاد الحلال)، و(الخيل تجقلب والشكر لحماد)، ولكن هيهات ومن ثم هيهات، لأن الواقع السياسي الجديد لا يقبل المساومة أو المحاصصة الحزبية الضيقة والمتعارضة مع المصلحة الوطنيّة العامة.

إرسال التعليق

لقد فاتك