حين تصرخ الذاكرة : قضية الدعم السريع بين الإتهام و تاريخ الجيش المليء بالإنتهاكات

يقول علماء الفيزياء إن الأصوات في الطبيعة – حسب الذبذبات التي تؤثر على سمع الإنسان – تقع على ثلاثة مستويات:

  1. أصوات ذات ذبذبات منخفضة لا نستطيع سماعها.
  2. أصوات ذات ذبذبات متوسطة تؤثر على حواس الإنسان، فنستطيع سماعها.
  3. أصوات ذات ذبذبات عالية، ومن شدتها لا نستطيع سماعها.

من خلال تجارب الحياة اليومية، أدرك الإنسان أن علاج المرض دائمًا ما يكون “ساخنًا”، خاصة إذا كان المرض عضالًا، حتى يصل إلى مرحلة يدفع فيها للطبيب مبلغًا من المال ليبتر له أحد أطرافه (حمانا الله جميعًا)، في سبيل إنقاذ بقية الجسد.

ينبغي علينا الإقرار ببعض الحقائق التي يكاد يُجمع عليها الناس، بغض النظر عن الجهة التي نختار الوقوف إلى صفها. ومن هذه الحقائق أن أغلب الحروب والصراعات يصاحبها انتهاكات بحق المدنيين، سواء كانت هذه الانتهاكات قتلًا خارج إطار القانون، أو اعتقالات تعسفية، أو اغتصابات، وغيرها.

هذا الإقرار لا يعني بأي شكل من الأشكال شرعنة الانتهاكات، بل هو اعتراف بواقع تاريخي ووقائع عايشناها.

نماذج تاريخية للانتهاكات:

  • رواندا (1994):
    ارتُكبت مجازر عرقية بحق التوتسي من قِبل قوات الهوتو.
  • سوريا:
    شهدت انتهاكات جسيمة من جميع الأطراف، شملت استخدام أسلحة محظورة ضد المدنيين.

مقتطف من تاريخ الدولة السودانية مع الانتهاكات:

  • الحرب الأهلية الأولى (1955 – 1972):
    بين حكومة السودان وحركة أنانيا، بدأت مع مطلع الاستقلال. شهدت الحرب مجازر بحق الجنوبيين في توريت، شملت القصف الجوي للمدنيين، حيث يُقدَّر عدد الضحايا بـ 500,000 قتيل. انتهت باتفاقية أديس أبابا عام 1972.
  • الحرب الأهلية الثانية (1983 – 2005):
    الأطراف: الجيش السوداني × الحركة الشعبية.
    أشعلها جعفر نميري بإلغاء اتفاق أديس أبابا وفرض الشريعة الإسلامية.
    أبرز الانتهاكات:
    • تجنيد الأطفال (Lost Boys).
    • استخدام الجوع كأداة حرب (مجاعة بحر الغزال).
    • التهجير القسري لملايين الجنوبيين.
      يُقدَّر عدد الضحايا بـ 2 مليون قتيل. انتهت باتفاقية نيفاشا 2005.
  • حرب دارفور (2003 – مستمرة):
    بدأت بعد تمرد حركتي العدل والمساواة وحركة تحرير السودان.
    أبرز الانتهاكات:
    • قصف المدنيين.
    • حرق ونهب القرى.
    • اغتصابات جماعية.
    • تطهير عرقي.
      يُقدَّر عدد الضحايا قبل حرب 15 أبريل بـ 300,000 قتيل.
      خلال هذه الحرب، صدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس عمر البشير من المحكمة الجنائية الدولية (2009–2010) بتهم جرائم حرب وإبادة جماعية.

الذين يقفون في صف الجيش بحجة انتهاكات الدعم السريع، يمكن تصنيفهم ضمن نطاق “الذبذبات العالية”؛ تلك التي تجعلهم – من شدة بشاعة انتهاكات الجيش التاريخية والحالية من ذبح، ونقر البطون، وإخراج الأطفال من بطون الحوامل وقتلهم – لا يرونها.

ما سبق هو مقتطف بسيط من تاريخ الدولة السودانية، الذي يبدو لمن يتابعه أنه ليس سوى سجل حافل بالحروب والانتهاكات.

قضية الدعم السريع:

في ظل سجل الدولة السودانية المليء بالانتهاكات، يمكن تصنيف الذين يقفون في صف “الدولة القديمة” على النحو الآتي:

  1. الكيزان وأذرعهم.
  2. شركاء السلطة.
  3. أشخاص موجودون في مناطق سيطرة الجيش.
  4. أشخاص تضرروا بشكل مباشر من الحرب.
  5. أشخاص لا يعرفون تاريخ الجيش وسجله الدموي.

حديثي موجَّه بدرجة أكبر إلى الفئتين (4) و(5).

وربما يكون تشخيصي للأزمة قاصرًا، ولكن ما أراه هو أننا بحاجة إلى عدسة دقيقة وطويلة المدى لفهم جذور العلّة التي أنهكت الدولة السودانية منذ نشأتها، وأن نركز على معالجة الأسباب العميقة بدل الانشغال بالأعراض التي تستخدمها السلطة لصرف الانتباه.

إن قضية الدعم السريع اليوم ليست مجرد خلاف عسكري، بل هي تجلٍّ لقضية الدولة السودانية بأكملها، وقضية الشعب السوداني بكل فئاته.

فالمطالبة بفيدرالية الدولة، والإصلاح الأمني والعسكري، واستقلالية التعليم، وبناء مؤسسات مدنية قوية، هي الأساس.

الدعم السريع كمؤسسة، بالأمس واليوم، لم يكن ينقصه النفوذ أو المال، ولكن ما جدوى ذلك على كاهل شعب يعيش 95% منه قبل الحرب تحت خط الفقر ويعاني من المرض والبطالة؟

إرسال التعليق