كاربينو يكتب : من ذاكرة الثورات إلى أفق التأسيس رسالة مليونية نيالا
مليونية نيالا تمثل حدثاً مفصلياً في مسار الوعي الجمعي السوداني ، ولحظة مشبعة بالدلالة الوجودية تتجاوز كونها مجرد حشد سياسي إلى كونها رسالة فلسفية وتاريخية تعيد تعريف علاقة الجماهير بمشروع الدولة ، إن خروج الناس بهذه الكثافة لم يكن بدافع طارئ أو استجابة عاطفية ، بل تعبير عن إدراك عميق بأن مشروع التأسيس لن يكتمل إلا بحضورهم الفعلي وإرادتهم المباشرة في صياغة المصير الوطني ، لقد ارتفعت نيالا إلى مقام العاصمة المعنوية للوطن ، إذ جمعت أصواتاً قادمة من كل أقاليم السودان من الشرق والغرب والشمال والجنوب والوسط لتتحول إلى مسرح رمزي يعكس وحدة المصير عبر تنوع المشاركين وتعدد خلفياتهم.
في هذه اللحظة الفارقة تماهى الفرد مع الجماعة وصار الوجود في ساحة السحيني فعلاً وجودياً بقدر ما هو سياسي ، إعلاناً عن انبثاق وعي جديد يرى في التعدد مصدراً للقوة وفي التنوع ضمانة للوحدة ، ولعل ما يمنح هذه المليونية عمقها الخاص أن القيادة التي خاطبت الجماهير لم تكن انعكاساً لسلطة مركزية معزولة ، بل تجسيداً لتمثيل عريض يختصر ملامح السودان كله ، ويُثبت أن أي مشروع وطني جاد لا يقوم على الإقصاء بل على الاعتراف المتبادل وصناعة عقد اجتماعي جديد.
ومليونية نيالا لا يمكن قراءتها بمعزل عن ذاكرة السودان الثورية الممتدة ، فهي امتداد حي لذاكرة أكتوبر 1964 حين خرجت الجماهير لتطيح بالاستبداد ، وأبريل 1985 حين أعادت الناس حريتها بأيديها ، وديسمبر 2019 حين أكد الشارع أنه مصدر الشرعية وازاح الطغيان ، إلا أن لحظة نيالا أضافت بُعداً جديداً فهي ليست مجرد استدعاء للماضي ، بل إعادة صياغة للمشهد من موقع الهامش الذي طالما كان مُهمشاً ، هذه المرة لم تنطلق الرسالة من الخرطوم بل من مدينة مثقلة بالجراح ، لتثبت أن السودان الجديد يمكن أن يُولد من الأطراف وأن الهامش قادر على قلب المعادلة الوطنية.
إن مليونية نيالا لم تكن حدثاً سياسياً فحسب ، بل احتفالاً بالهوية السودانية المتعددة ، امتزجت لغات وثقافات الشعوب المختلفة في نسيج جماهيري واحد ، وجسدت الجماهير الهادرة فهماً ضمنياً بأن قوة السودان تكمن في تنوعه ، وأن التماسك الوطني لا يقوم على فرض وحدة شكلية بل على الاعتراف بالاختلافات وإشراك الجميع في صياغة المشروع الوطني.
وسط التحديات القاسية التي تعصف بالبلاد ، من الحرب والانقسام إلى ضيق سبل العيش كان الخروج الجماهيري فعلاً مقاوماً بحد ذاته و مقاومة لليأس ورفضاً للاستسلام وإصراراً على أن الشرعية تنبع من الناس وحدهم ، إن المشهد في نيالا لم يكن مجرد استعراض للقوة بل إعلان عن بداية زمن جديد يضع الجماهير في مركز صناعة التاريخ ويؤكد أن الدولة لا تُبنى بصفقات النخب بل بإرادة الشعب.
إن خروج نيالا يعكس تحول الهامش من موقع ثانوي إلى قلب الأحداث الوطنية ، حيث تصبح المدن والأقاليم التي طالما كانت مهمشة منصة لتجسيد إرادة الشعب وإعلان أن المشاركة الحقيقية في صناعة المستقبل ليست حكراً على الخرطوم بل حق للجميع وهذا التحول يضيف عمقاً سياسياً واستراتيجياً للمليونية ، حيث يتحول الحشد إلى قوة ضاغطة على القيادة لتسريع مسارات البناء والتأسيس ، مؤكداً أن أي مشروع وطني يفتقد مشاركة الجماهير سيكون هشاً ومهدداً بالفشل.
وفي البُعد النفسي والوجداني لم يكن الخروج مجرد فعل جماعي ، بل تجربة تجمع بين الفرح بالأمل والخوف من الفشل ، بين الحزن على الماضي والأمل في المستقبل هذا المزيج من المشاعر يخلق شعوراً جماعياً بالمسؤولية ، ويجعل من المليونية لحظة تأسيسية على مستوى الوعي الجمعي تعكس قدرة السودانيين على توظيف الألم والتحديات كقوة دافعة نحو التغيير.
أما البُعد المستقبلي لهذه المليونية فهو الأهم فهي تفتح الباب أمام إعادة توزيع السلطة والثروة على أسس أكثر عدالة ، وتجعل من المشاركة الشعبية قاعدة تأسيسية لا يمكن تجاوزها ، إن صورة الجماهير الهادرة في عاصمة الهامش ترسم ملامح سودان مختلف ، سودان لا تقوده مركزية ضيقة بل تتشارك في صياغته كل الأقاليم ، وتنهض مؤسساته على التوازن والاعتراف والعدالة ، وإذا ما أُحسن التقاط هذه الرسالة فإن نيالا قد تكون الشرارة التي تُطلق تجربة تأسيسية جديدة تعيد صياغة معنى الدولة السودانية في القرن الحادي والعشرين ، دولة تتسع للجميع وتستمد مشروعيتها من الناس لا من النخب.
هكذا تصبح مليونية نيالا ليست فقط امتداداً لذاكرة الثورة السودانية ، بل انعطافة تاريخية تحمل وعداً بميلاد سودان جديد ، سودان يعاد بناؤه من إرادة الناس وتضحياتهم ، ويُصاغ مستقبله بوعيهم الجمعي لتغدو الجماهير الهادرة هي البوصلة الوحيدة التي تحدد اتجاه الوطن نحو الحرية والعدالة والسلام.


إرسال التعليق