طه محمد علي : من شظايا الحرب قصة قصيرة
لقد كان يخرج من البيت في ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها خطيرة، وتفاقمت الأزمة بعد انعدام السلع الضرورية في دكان الحي. كان عليه أن يذهب، لكن دون أن تعلم زوجته، فهو لا يضع ثمنًا لحياته. فبعدما رأى في الليلة الماضية ابنه يبكي، لم ينم وخرج في الصباح كي لا يشعروا به. تركهم يغطّون في نوم عميق، تأملهم جيدًا وخرج.
استيقظوا ولم يجدوا الأب، وأدركت الأم أنه خرج ليبحث عن شيء يؤكل. لكن ما يثير القلق في قلبها أصوات المدافع وتلك القذائف التي تسقط في الطريق. فجأة، أخذت تدعو الله أن يعود سالمًا. تأخر، لقد مرت ثلاث ساعات على بزوغ الشمس. سألها الطفل: “أين أبي؟” أجابت: “سيعود، أو ربما هو في الطريق”. وبعد لحظات، ركض الطفل إلى الخارج وهو يصرخ: “أبي، أبي”. لبست الأم الثوب بسرعة فائقة لتعيد ابنها إلى البيت، ورأت أباه في نهاية الطريق، وبدأ يركض إليه.
وفجأة، سقطت قذيفة بينهما، وارتفع الدخان مختلطًا بالغبار وصوت عالٍ يملأ القلب رعبًا، واهتزت الأرض وعلا صراخ نساء الحي. صاحت الأم ملء حنجرتها: “بني!” خرجت ولم تره فالدخان كان كثيفًا. أنصتت لحظات وسمعت بكاء طفل، وهرولت نحوه مسرعة. اقتربت لترى ابنها يجلس قرب شخص طريح على الأرض. وبعدما قرأت ملامح ذلك الشخص، أدركت: نعم، إنه زوجها. تسللت برودة إلى ساقيها وشعرت بأن رجليها غير قادرتين على حملها، وجثت على ركبتيها قرب رأسه. وبنبرة يسيطر عليها الحزن وصوت مرتعد، قالت وهي تضع يديها على صدره الذي اخترقته الشظايا:
”كُررْ عليّ، أنا دي الدنيا خلاص دايرة تشيلك مني”.
قال لها ودماء تسيل من فمه:
”عليك أن تكوني قوية بعد اليوم”.
تصاعدت أنفاسه بسرعة عالية وبدأ يشعر بصعوبة في الكلام، وهو يضع يده على بطنها، فهي كانت حُبلى في شهرها الخامس. قال لها:
”اعتنِ بها من أجلي، فأنا أعلم أنها بنت. حدثيها عني فالأموات يعيشون فقط في الذكريات. أخبريها أن أباها كان يتوق لرؤيتها. احملي حبي إليها أيضًا”.
شهق وخرجت الدماء بكثافة هذه المرة، كأنما ينبوع بدأ يفيض لتوه. لم يستطع أن ينطق بحرف بعدها، واكتفى بنظرة في عينيها. أراد أن يخبرها بآخر كلامه، لكن الروح بدأت تتسلل خارج الجسد، وما تبقى منها يكفي فقط أن ينظر إليها حتى النهاية. رأت في عينيه تلك الكلمة التي لم يقلها لها بوضوح، لكنها الآن ترتسم كأنما نُقشت بحرفية شفافة جدًا في عينيه.
سمعت صوتًا من خلفها يقول: “لا حول ولا قوة إلا بالله”، ونادى على أهل الحي بسرعة. وضعوه في السرير وحُمل من أمامها، ولم تقو على الوقوف، بل كانت سيول جارفة تنحدر من عينيها. أمسك الطفل بالثوب وهو ينظر إلى أمه وقال:
”إلى أين يأخذون أبي؟”
ردت بنبرة تهشمت بالبكاء: “إلى المشفى، أو المقبرة”.
هو يعرف المستشفى جيدًا فقد ذهب مع أبيه قبل فترة، لكن تلك المفردة التي طرقت باب أذنه لأول مرة، بدت وكأنها مكان خطير من صوت أمه. سألها: “ما هي المقبرة يا أمي؟”
قالت: “إنها مكان يذهب إليه الأموات يا ولدي”.
رد: “من هم الأموات؟”
قالت: “من لن نراهم مرة ثانية بعد الوداع”.
رد: “هل لن نرى أبي بعد اليوم؟” ودموع تملأ عينيه.
ضمته بقوة شديدة لتخفف نار الحزن تلك، ودقات قلبها تقول: “نعم، لن نراه بعد اليوم”.



إرسال التعليق