المودودي الدود : الحاضنة الاجتماعية لدولة ٥٦ والقوى الإرثية أيهما يفسّر مأزق الدولة السودانية؟
ظلّ النقاش الفكري حول أزمة الدولة السودانية يتأرجح بين مفاهيم متعددة. من بين هذه المفاهيم برز مفهوم القوى الإرثية الذي يرى أن الامتيازات السياسية والاقتصادية والمعرفية انتقلت بالتوارث من جيل إلى جيل داخل عائلات محددة. لكن هذا المفهوم رغم أهميته في تسليط الضوء على جانب من الأزمة يبقى محدودًا إذا قورن بمفهوم الحاضنة الاجتماعية لدولة ٥٦ الذي يكشف أن المشكلة أعمق بكثير من مجرد توريث النخب بل تعود إلى البنية نفسها التي صُمّمت عليها الدولة السودانية منذ الاستقلال.
القوى الإرثية امتياز بالتوارث
وفق هذا المفهوم القوى الإرثية هي الفئات التي حازت السلطة والمال والمعرفة عبر علاقتها بالاستعمار البريطاني ثم حافظت عليها بتوظيف جهاز الدولة بعد الاستقلال. تضم هذه الفئات
كبار البيروقراطيين في جهاز الدولة الاستعماري.
زعماء الطوائف والإدارة الأهلية المتحالفة مع المستعمر.
رجال الأعمال الذين مثّلوا رأس المال الأجنبي محليًا.
غير أن ما يجمع هذه القوى ليس فقط الامتياز الموروث بل أيضًا الانتماء الجغرافي والقبلي فمعظمها يتمركز في شمال وسط السودان. هذه الحقيقة تفسّر لماذا لم تمثل القوى الإرثية بقية أقاليم السودان ببساطة لأن الدولة منذ البداية صُمّمت لتكون أداة لإقصاء المجتمعات الأخرى لا لتمثيلها.
الحاضنة الاجتماعية البنية الأوسع والأعمق
أما الحاضنة الاجتماعية لدولة ٥٦ فهي ليست مجرد نادي امتياز للعائلات بل بنية اجتماعية ثقافية جهوية صاغت الدولة الوطنية نفسها.
التعليم تمركز في مدن النيل وأصبح أداة للفرز.
الاقتصاد (مثل مشروع الجزيرة وُظّف لخدمة أبناء المركز.
مؤسسات الدولة تحوّلت إلى جهاز فرز وظيفي يعتمد على الولاء والانتماء.
الهوية الرسمية صِيغت على أساس أحادي عربي إسلامي بينما أُقصيت بقية اللغات والثقافات.
الحاضنة هنا ليست نخبة بالمعنى الضيق بل منظومة كاملة أعادت إنتاج نفسها في كل حقبة ديمقراطية عسكرية إسلامية.
التناقض بين المفهومين
القوى الإرثية أزمة مرتبطة بتوارث النخب الامتياز من جيل إلى جيل.
الحاضنة الاجتماعية أزمة مرتبطة بتصميم الدولة نفسها كبنية إقصاء وتمركز.
القوى الإرثية قراءة طبقية نخبوية بينما الحاضنة الاجتماعية قراءة بنيوية ما بعد استعمارية تكشف أن الدولة الوطنية لم تكن وطنية أصلًا بل استمرارًا ناعمًا للمؤسسة الاستعمارية بوجوه محلية.
الخلاصة
إن أي محاولة لقراءة المشهد السوداني اليوم تقتضي الفصل بين ماضي القوى العسكرية وبين موقعها الراهن في لحظة الصراع الحالية. من هذا المنطلق لسنا معنيين الآن بمحاسبة الدعم السريع على ما ارتكبه قبل الحرب بقدر ما نحن معنيون بفهم دوره الجديد في معادلة التحرر.
لقد أصبح الدعم السريع بحكم الواقع العسكري والسياسي القوة التي تواجه الجيش السوداني الجيش الذي ظلّ منذ الاستقلال الحارس الأمين لبنية دولة ٥٦ أي الدولة التي تأسست على الامتياز والإقصاء وأعادت إنتاج التفاوت بين المركز والهامش لعقود متصلة.
إن أهمية الدعم السريع لا تأتي من كونه تنظيمًا ثوريًا بالمعنى التقليدي بل من موقعه الراهن فهو يقف في مواجهة المؤسسة العسكرية التي تتمسك ببقاء دولة الامتياز. فإذا التزمت قياداته بمشروع التحرير وتفكيك دولة ٥٦ فإنه يتحول إلى قوة ثورية بحكم موقعه في الصراع لا بحكم تاريخه.
المسألة إذن ليست في الماضي بل في الحاضر والمستقبل
الجيش يقاتل ليبقي على دولة الإقصاء.
والدعم السريع ما دام يقاتل من أجل تفكيكها يصبح جزءًا من معركة الشعوب السودانية من أجل التحرر.
وهنا يتضح أن المعيار الجوهري ليس هوية القوة العسكرية ولا تاريخها بل موقعها من مشروع التحرر هل تسعى لحراسة دولة الغنيمة أم لتفكيكها وبناء دولة المواطنة؟
التركيز على القوى الإرثية يُبقي النقد محصورًا في دائرة العائلات والنخب بينما مفهوم الحاضنة الاجتماعية يكشف أن الأزمة أعمق الدولة السودانية منذ ١٩٥٦ صُمّمت لتعيد إنتاج امتياز المركز وإقصاء الأطراف.
ولذلك فإن تفكيك الدولة الغولة لا يعني فقط مواجهة النخب الموروثة بل يعني قبل كل شيء تفكيك الحاضنة الاجتماعية نفسها التي جعلت الدولة أداة امتياز لا أداة مواطنة.
إرسال التعليق