عمار نجم الدين : عبيد المنازل في بورتسودان حين يحتمي القتلة بمَن ادعوا النضال
في ذكرى تأسيس الجيش السوداني، كتب مني أركو مناوي مديحاً لهذه المؤسسة، واصفاً إياها بـ”صمام أمان الوطن ودرعه الحامي”. للوهلة الأولى قد يبدو هذا الخطاب بروتوكولياً، لكنه عند قراءته بمنهج بنيوي تاريخي ينكشف كجزء من آلية قديمة لإعادة إنتاج الولاء للمركز عبر ترويض نخب الهامش ودمجها في جهاز السلطة الذي بُني أصلاً لقمعهم. فالجيش السوداني، منذ نشأته في “قوة دفاع السودان” عام 1925، لم يكن جيشاً لحماية الشعب، بل أداة لضبط المستعمرات الداخلية وحراسة المشروع النيلي، موجهاً سلاحه نحو الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور أكثر مما وجهه إلى أي عدو خارجي.
هذا الجيش ليس مجرد مؤسسة عسكرية، بل هو الفاعل المباشر في الإبادة الجماعية بدارفور: القتل الجماعي، الاغتصاب الممنهج، حرق القرى، التهجير القسري، وتمليش المليشيات لتنفيذ سياسة الأرض المحروقة. وهو اليوم نفسه الذي يحمي في بورتسودان خمسة من المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية: عمر حسن أحمد البشير، أحمد هارون، عبد الرحيم محمد حسين، ما عدا علي كوشيب،. هؤلاء، المتهمون بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يقفون تحت مظلة الحماية العسكرية المباشرة من الجيش، وبدلاً من أن يُساقوا إلى العدالة، يُعاد إنتاجهم كجزء من مشهد “الدولة”.
مني أركو مناوي، الذي كان يوماً يزعم النضال باسم ضحايا دارفور، تحوّل اليوم إلى مطبل لهذا الجيش الاستعماري العنصري الذي قتل وشرد واغتصب أهله. المثال هنا ليس عن مناوي وحده، بل عن نمط متكرر: فئة من أبناء الهامش تنصهر في بنية السلطة حتى تصير جزءاً من آلتها، وفئة أخرى تبقى متجذرة في أرضها وذاكرتها، تواجه البنية ذاتها التي همشتها. في الخطاب الثوري، تُستخدم استعارتا “عبيد المنازل” و”مناضلي الحقول” لتفسير هذا الانقسام، لا كتصنيف عرقي، بل كتحليل نفسي وسياسي لتموضع الأفراد في علاقاتهم مع السلطة.
محمد جلال أحمد هاشم يجسد الوجه الآخر من المشهد؛ الرجل الذي أغرقت السلطة المركزية أرضه النوبية، وطمست حضارته، ونفته إلى أرض ليست أرضه، عاد بعد سنوات من الترويض أكثر حرصاً على حماية المركز من أهل المركز أنفسهم. كان رمزاً للممانعة الثقافية، فانقلب إلى أحد حراس أبواب السلطة التي دمرت جذوره. ومناوي ومحمد جلال، برغم اختلاف سيرتيهما، يلتقيان عند نقطة واحدة: كلاهما أصبح صوتاً للمركز، ودرعاً لبنيته القمعية.
ما يحدث ليس انحرافاً فردياً، بل هو جوهر خطة الاستعمار الداخلي: قمع دموي، ثم عفو مشروط، فإدماج رمزي، وأخيراً استخدام الضحايا السابقين كأدوات لتلميع صورة القامع. وعندما يردد مناوي شعارات مثل “جيش واحد شعب واحد”، فإنه يكرر خطاب السلطة التي جعلت من الجيش أداة للإخضاع، لا للوحدة.
الصراع في جوهره هو صراع وعي: وعي يختار سقف منزل السيد ولو كان سقفه هشاً، ووعي يختار برد الحقول وعرقها ودمها بحثاً عن الحرية. أما الحقول، رغم قسوتها، فهي التي ما زالت تحفظ البذور القادرة على إنبات حرية حقيقية، خارج جدران المنزل الذي يحتمي فيه عبيد المنازل مع القامع نفسه.
إرسال التعليق