​مليح يعقوب حماد : أسباب فشل المشروع الثقافي لدولة 56. - صوت الوحدة

​مليح يعقوب حماد : أسباب فشل المشروع الثقافي لدولة 56.

باحث بالمركز الافريقي للديمقراطية والتنمية.

​نحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على بعض الأسباب التي تسببت في انهيار المشروع الثقافي لدولة المركز. ونستهل حديثنا بما يحدث في أروقة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، بوصفها أحد الأوعية الإعلامية الهامة التي تم عبرها تفريغ المشروع الثقافي لدولة 56. لقد ظل رواد هذا المشروع منذ نشأته يمارسون الاستهبال الثقافي ويبدعون في ممارسة العنصرية المعلنة والخفية عبر حكوماتهم العسكرية والمدنية التي انتهجت سياسات الترقيع والترميز والتضليل وفرق تسد كوسيلة لإدارة التنوع. وظلوا يقفون ضد أي مشروع يتعارض مع مصالحهم أو يحرمهم من امتيازاتهم التاريخية التي ورثوها من المستعمر.
​أرى أن رهان الشعب على مؤسسات المركز الثقافية والإعلامية هو مضيعة للوقت، ولابد من العمل على إعادة بنائها على أسس وطنية عادلة يتساوى فيها الناس في الحقوق والواجبات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما أنشأ الإنجليز إذاعة أم درمان في العام 1940م، لم يجدوا غناءً سودانيًا مكتمل الأركان ليجسد الأوركسترا، لذا استعانوا بالطنابرة كنموذج شعبي، بينما تجاوزوا بقية الأنماط الشعبية. وتعتبر أغاني الطنابرة أو الحمبي هي النواة الحقيقية لحقيبة الفن، وقد تطورت بدورها إلى أن بلغت مرحلة الأغنية الحديثة والتي تُعرف إعلاميًا بـ”أغاني الوسط”. ويجب إعادة النظر في هذه التسمية لكونها مبنية على أساس جغرافي لا تربطه صلة بالوسطية كقيمة إبداعية مستقلة بذاتها ومحصنة ضد كل أيديولوجيا تحاول العبث بمشتركاتها الخالدة.
​ظل المركز في حالة توهم مستمر بأن تلك اللونية من الأغاني هي الداعم الأساسي لخطه السياسي والثقافي والفكري، ولكنها تمردت عليه منذ أول يوم في ميلادها، وقد عبرت لوجدان الشعب بسحرها الجاذب والداعي للوحدة والسلام والخير والجمال. في ذات مرة من المرات، أضرب الكورس عن الغناء فتم إدخال الآلات الموسيقية بديلاً عنه، ورويدًا رويدًا انتقلت الحقيبة إلى مرحلة الحداثة وتجلت ملامحها في مدرسة الفنان إبراهيم الكاشف.
​أثار اهتمام الدولة بها كثقافة دون غيرها حفيظة كثير من الناس، خاصة إخوتنا الجنوبيين الذين انتفضوا في العام 1955م رافضين التوجه العروبي لحكومة الأزهري ومطالبين بالفدرالية كوسيلة لحكم البلاد. لقد دخلت الثقافة والفنون ومنذ ذلك الحين كطرف أصيل في الصراع. فغيّرت الإذاعة من أساليبها واستعانت بسياسات الترقيع، فابتكرت عددًا من البرامج الغنائية المسجلة خارج استديوهاتها كبرنامج “رسائل المديريات” الذي أسهم في ظهور مجموعة من رواد الفن السوداني، على سبيل المثال لا الحصر: الفنان الراحل إبراهيم موسى أبا والفنان الراحل صديق عباس وعبد الرحمن عبد الله ود عبد القادر سالم.
​ورغم اجتهادات الإذاعة في ربط الأجيال ببعضها البعض، إلا أنها فشلت في إحداث التوازن المطلوب بين الوحدة والتنوع لوجود خلل كبير في سياساتها الثقافية التي تتمحور حول محاولاتها لإدارة التنوع الثقافي بشكل عفوي، ولا يرتكز على أي معايير عادلة. نلاحظ أن التباعد الجغرافي للأقاليم قد حد من قدرتها في الانفتاح على مجتمعات الريف. فعلى وجه الخصوص، وفي بلد متعدد الثقافات ومترامي الأطراف كالسودان، يصعب عليه إدارة التنوع من سلطة مركزية قابضة. ولابد له من الوقوف على مسافة واحدة من جميع الثقافات مع تطبيق الفيدرالية الثقافية والديمقراطية الثقافية والتنمية المتوازنة بوصفها من ضمن الآليات الفاعلة في إدارة التنوع.
​ومن الملاحظ أن الغناء الشعبي منتشر في كل شبر من أرض السودان، وله أشكال وألوان متعددة مثل السنجك والكاتم والطمبارة والجراري والتويا وأم بري بري والربابة والفرنقبية والكشوك وإلى ما ذلك. وقد يظهر في شكل مواويل شعبية مثل النم والدوبيت والهداي والبوشان والجرداق وخلافه. من وجهة نظري، أرى أن غناء الطنابرة، ومن حيث الشكل والمضمون، تربطه صلة بغناء الطنبارة الموجود في كردفان ودارفور والقضارف، فقد كان بعض شعراء الحقيبة يقضون جزءًا من أوقاتهم في مدينة الأبيض.
​يعتبر الحمبي المصاحب للطنابرة نوعًا من الكرير، وهو عبارة عن صوت يخرج من الحنجرة يستخدمه رعاة الإبل. وقد كان جنود الخليفة عبد الله التعايشي يعرضون تراثهم قبل بداية كل معركة، حيث يتجمعون في ساحة كبيرة في مدينة أم درمان ويطلق عليها حاليًا حي العرضة. وهنالك سرديات تاريخية تبرهن أن غناء الحقيبة مقتبس من تراث الطمبارة المنتشر منذ قديم الزمان في كردفان ودارفور. ومن الملاحظ أن الباحثين عن فن الحقيبة لم يتطرقوا للخيوط الرابطة بين الطنابرة والطنبارة، ومن أشهر الطنابرة في السودان الراحل المقيم (تنبل) القادم من قرية قليصة والذي اشتهر بأغنية “الصغيرون عليك الله جر التويا لينا مرة”.
​لقد تطرقنا من خلال سلسلة مقالات “متاريس ثقافية” لأغنيات الحقيبة والوسط بوصفها الأساس الذي ارتكز عليه تاريخ الأغنية السودانية. وقد استحوذت على قوائم البيانات الأولية التي انطلق منها المشروع الثقافي لدولة 56، وهذا ما يؤكد أن هذا المشروع قد ولد منقوصًا ومهما حاول النهوض سيفشل في استكمال لوحاته، كما سيعجز عن ضخ أوكسجين الحياة في رئة التنوع الثقافي. ولن يتمكن من لملمة أطرافه لاستمالة الشارع؛ لأنه يعتبر هو اللاعب الأساسي والذي تسبب في ارتفاع موجات الغضب والغبن والاحتقان.
​إن الحروب المستمرة التي تدور رحاها في السودان منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا لا بديل ينهيها سوى خروج الإسلاميين من المشهد السياسي، على أن تكون الكثافة السكانية هي المعيار الوحيد لتوزيع السلطة والثروة والوظائف. إن الثقافة تصمد وتفرض شروطها بشكل طوعي واختياري وبإرادة الشعب، وليس كما تفعل دولة المركز.
​حديثنا هذا لا يخصم من قيمة الحقيبة ولا ينقص شيئًا من قدرها. وقد كنا نمني النفس بأن تلعب بقية الأغنيات نفس الدور الريادي الذي حرمته منها الدولة. وهذا بدوره نهج إقصائي يطعن في أخلاقها لعدم نزاهتها في توزيع الفرص. إن لجنة إجازة الأصوات في إذاعة أم درمان كانت لوقت قريب تشترط على الفنان أداء أغنية من الحقيبة لمنحه شهادة بإجازة صوته، ولم تتنازل من شرطها الجزائي المجحف إلا بعد ظهور شركات الكاسيت.

إرسال التعليق

لقد فاتك