محمد الحبيب يونس : اللاوعي النصي في قصيدة “سجل أنا عربي” لمحمود درويش.
هذه دراسة تتجاوز المعاني الظاهرة في القصيدة، لتركز على الغوص والحفر عميقا في المكبوتات والمعاني الباطنية التي لا تطفو على سطح النص، والتي هي تمثل عقله الباطني.
الفكرة العامة
تجسد القصيدة فخر الفلسطيني وكفاحه من أجل البقاء رغم الظروف الصعبة التي يمر بها. يظهر ذلك بوضوح في بداية القصيدة:
سجِّل! أنا عربي
ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ
وأطفالي ثمانيةٌ
وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!
فهلْ تغضبْ؟
سجِّلْ!
أنا عربي
وأعملُ مع رفاقِ الكدحِ في محجرْ
وأطفالي ثمانيةٌ
أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ،
والأثوابَ والدفترْ
من الصخرِ
هذا المقطع يفيض بمشاعر الفخر والمثابرة ويصور جانبا من حياة الفلسطيني والعمل الشاق الذي يؤديه لتغذية الأبناء وتعليمهم، وهو ما يفتخر به الشاعر. كما يفتخر بعزة نفسه التي ترفض التوسل:
ولا أتوسَّلُ الصدقاتِ من بابِكْ
ولا أصغرْ
أمامَ بلاطِ أعتابكْ
وتستمر القصيدة في وصف الحالات النفسية واليومية للشاعر، وفخره بأصالته وجذوره الضاربة في أرضه.
تجليات اللاوعي النصي في القصيدة:
- الحوار الأحادي
أول تجليات اللاوعي هو الحوار الأحادي الذي يظهر فيه صوت الشاعر فقط، بينما يظل المخاطب غائبًا. غياب صوت الآخر ليس مصادفة، بل هو انعكاس لانعدام الحوار والتفاوض، أو أن طلب السلام يأتي من طرف واحد. كما يشير إلى ثنائية الظالم والمظلوم. إحساس الشاعر بالظلم يجعله يكثر من الكلام بشكل لا واعٍ، على عكس المخاطب الظالم الذي لا يحتاج إلى الكلام لأنه في موقع قوة.
- الحفاظ على الذات ومقاومة الاندثار:
- تكرار “سجل أنا عربي”: هذا التكرار ليس مجرد وظيفة إيقاعية، بل هو محاولة لاواعية لتحقيق الذات وتخليدها في التاريخ في مواجهة تهديدات الوجود من قبل الكيان الإسرائيلي. يكشف التكرار عن قلق الشاعر من الموت ومحاولته تخليد ذاته التي ترمز إلى الهوية الفلسطينية بأكملها.
- كثرة الأبناء: (وأطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف). هذا التعبير لا يشير فقط إلى الفخر بكثرة النسل، بل يحمل في طياته خوفًا لاواعيًا من فناء الأمة. كثرة الأبناء هنا هي مقاومة للموت الذي تتعرض له الأمة يوميًا.
- التعبير عن الحصار والتجويع:
لم تذكر القصيدة بشكل صريح الحصار ومنع دخول الغذاء، لكنها تضمنت ذلك في لاوعيها. قول درويش:
ولكني إذا ما جعتُ
آكلُ لحمَ مغتصبي
يأتي ظاهريًا للتخويف والردع، ولكنه في بعده اللاواعي يشير إلى حالات الحصار والتجويع التي مر بها الشعب الفلسطيني. هذا السطر يحمل ذاكرة جماعية عن الحصار الذي تعرض له الفلسطينيون، فـ”الجوع والاغتصاب” لا بد أن يكون وراءهما جهة فرضت حصارًا اقتصاديًا أو عسكريًا.
- محو الصورة النمطية الارهابية عنه:
ينفي الشاعر عن نفسه الصفات التي ألصقها به الآخر، بقوله:
سجِّل.. برأسِ الصفحةِ الأولى
أنا لا أكرهُ الناسَ
ولا أسطو على أحدٍ
هذا النفي لا شك أنه يستحضر الصورة النمطية السلبية التي شاعت عن العربي “الإرهابي” في الغرب، ويحاول محوها بشكل لاواعٍ. إن نفيه لهذه الصفات بلا يشك يبطن ويستحضر معرفته بأنها موجودة في الوعي الجمعي للطرف الآخر فحاولة نفيها.
ملاحظة
وعلى أي حال فإن دراسة لاوعي النصوص لا تكون نهائية مهما اجتهد الدارس، فقد يجد باحث ما ما غاب عن باحث آخر، ومن ثم فإن هذا التحليل لا يدعي استيعابه لكل الدلالات الباطنية بقدر ما هو دراسة تبرز ما استطاع الباحث أن يراه.


إرسال التعليق