سوسيولوجيا المسرح

يتشكّل المسرح السياسي وفق سياقات سوسيولوجية معقّدة تمتد جذورها إلى إرث تاريخي طويل، بدأ يتّضح بصورة جلية مع وفاة الإمام المهدي. في ذلك الوقت، نشأ الخلاف حول من يخلفه، وهو خلاف أعاد إلى الأذهان مشهد الفتنة الكبرى التي حدثت بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
يتكرّر المشهد نفسه في الدولة المهدية، وتفاقم هذا الخلاف بين الخليفة عبد الله التعايشي وأشراف بيت المهدي، حيث رأى الأشراف أنفسهم أحقّ بالخلافة بسبب الانتماء العِرقي والقرابة.
ولمواجهة هذه الأزمة، لجأ الخليفة إلى الاستقواء بمجموعته العِرقية، مستندًا إلى تقاليد العصبية التي اكتسبها من احتكاكه الطويل مع الأشراف. حيث تعامل التعايشي بعد ذلك مع الأمور بمنطق الدولة في مواجهة التحديات، لكن هذا النهج أدّى إلى تعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية داخل الدولة المهدية.

ومع دخول المستعمر التركي–الإنجليزي، برزت العِرقية بشكل صارخ على المسرح السياسي، لتعيد ترتيب مقاعد السلطة وفق الجغرافيا والعرق.
من هنا، باتت العصبية العِرقية تتحكّم في مراكز اتخاذ القرار، ما أدّى إلى نشوء حركات عِرقية وجغرافية معارضة، لتتشابك خيوط الأزمة بعد أن بدأت هذه الحركات بالمطالبة بالحكم الذاتي في الجنوب، ثم امتدّت إلى الشرق والغرب، لتتطوّر الأزمة لاحقًا إلى مواجهات مسلّحة تطالب بحق تقرير المصير.

هذه الحركات، ورغم اختلاف مواقعها الجغرافية وأهدافها الآنية، تشترك في عامل واحد: التهميش والإقصاء من مراكز القرار.
وفي صُلب هذا التمسرح السياسي، تبرز تساؤلات عميقة لدى المراقب الحائر: لماذا تصرّ النخب العِرقية المُهيمنة على التمسّك بمقاليد القيادة السياسية؟
كيف تلعب هذه النخب دورًا مزدوجًا كمخلّص ومنقذ في الخطاب العام، بينما تلعب في الواقع أدوار الجلّاد والحَكم والخَصم والضحية في آنٍ واحد؟
لماذا يظلّ التمثيل السياسي مقتصرًا على نفس المجموعات من نفس الجغرافيا، على اختلاف الأيديولوجيات؟
ولماذا تعارض هذه النخب فكرة الفيدرالية، التي قد تتيح فرصة عادلة لمشاركة جميع الأطراف في إدارة الدولة؟

حيث تستمرّ نخبة معيّنة بالتشبّث بمسرح السلطة، واستبعاد بقية المجتمعات في مسرحية معتلة، تعكس بنيوية أزمة البلاد في تمركز اتخاذ القرار بيد نخبة ترى في نفسها الحارس الأبدي للسلطة، وتترك أمر الدعوة إلى الفيدرالية لحركات لحظية ينتهي بها الحال إلى مشاركة تعكس طابعًا من التجاوزات الهرمية الاجتماعية التقليدية، حيث لا يُضمن أي نوع من العدالة السياسية والاجتماعية، وهو ما يعيد الانقسامات ويعيد إنتاج نفس الأزمات.

في نهاية المطاف، هل يمكن للسودان أن يتجاوز إرث العصبية والعِرقية لبناء دولة قائمة على التعدّدية والعدالة؟ أم أن التمسرح السياسي سيظل يدور في فلك الصراعات القديمة حول صراع الهوية الوطنية نفسها؟

إرسال التعليق