كاربينو يكتب : الرئيس من الأطراف حميدتي كحدث فلسفي في التاريخ السوداني - صوت الوحدة

كاربينو يكتب : الرئيس من الأطراف حميدتي كحدث فلسفي في التاريخ السوداني

حين يُكتب التاريخ من الأعلى تُمحى وجوه الذين عاشوا في الأسفل ، السودان لعقود طويلة ظل دولة تَكتُبها النُخَب وتُديرها الصفوة ، بينما تُركت الأطراف على هامش الذاكرة والجغرافيا معاً، في هذا السياق يبدو صعود الجنرال محمد حمدان دقلو، حميدتي، إلى رئاسة المجلس الرئاسي ، أكثر من مجرد تحول سياسي إنه كسر فلسفي لبنية راسخة من التراتب الطبقي والمكاني ، ليس حميدتي سياسياً تقليدياً ولا وريثاً لسلطة قديمة ، بل هو رجل خرج من تخوم الوطن ، حاملاً معه شظايا المنفى التاريخي ، ليعيد تسمية الأشياء ، ويطرح سؤال الدولة من جديد لمن تُبنى الدولة؟ ومن يملك حق تخيلها؟

لم يكن صعود حميدتي حدثاً عابراً أو فجائياً ، بل كان ثمرة لتراكم تاريخي من النسيان والتهميش والانفجار ، مسيرة الذات التي لم تُمنح يوماً فرصة الظهور في مرآة الأمة ، جاء من عمق البادية لا ليطلب الاعتراف بل ليؤسس له ، متجاوزاً أسوار الخطاب الرسمي إلى واقع مختلف ، حيث الإنسان مهمش لا فقط في حظه من التنمية ، بل في حقه في المعنى والوجود، لقد استعاد المكان الذي جاء منه ، لا ليُغرقه في الرمز ، بل ليضعه في صلب المشروع الوطني ، معلناً أن الدولة الحقيقية لا تُبنى من القصر ، بل من خيمة في أقصى الحدود ، ما دامت العدالة غائبة.

صعود حميدتي يمثل مفارقة لا تخطئها العين في التاريخ السياسي السوداني ؛ إذ لطالما جرى تصوير الأطراف كخزانات بشرية للحروب ، ومناطق عجز تنموي ، لا كمصادر للقيادة والتخطيط ، لقد حُصرت الوطنية في المركز ، والمواطنة في مقاييس النُخب ، أما اليوم فها هو رجل من عمق الجغرافيا المهمشة يعيد توزيع الشرعية من جديد ، ويجعل من ذاته مرآة لحق الجميع في الوصول إلى قلب السلطة ، لا كاستثناء بل كتحقق لمشروع العدالة.

يُمثل حميدتي بهذا المعنى ظاهرة فلسفية أكثر منه شخصية سياسية ، لأنه لا يطرح نفسه كمنقذ ، بل كأثر لفشل النُظم القديمة ، وكمُمثل لميلاد وعي جديد يرى في العدالة الاجتماعية لا مجرد إعادة توزيع ، بل اعترافاً حقيقياً بمن تم محوهم من سجل الأمة ، العدالة عنده ليست شعاراً يُقال ، بل عقد اجتماعي لا يُفرق بين المركز والهامش ، بل يُعيد تنظيم العلاقة بينهما ، على أساس المشاركة والكرامة والحق في القرار ، في قلب رؤيته يقبع سؤال غائب عن نخبة الخرطوم من يُمثل السودان؟ أهو من تعلم في المدارس الخاصة وتربى في صالونات الامتياز؟ أم ذاك الذي قاتل في الهجير وشاهد الدولة من ظهرها؟

من يتتبع تصريحات حميدتي وممارساته في لحظة الحرب والتحول ، يدرك أنه لا يرى الدولة كمزرعة أو ملكية ، بل كعقد اجتماعي يتطلب إعادة التفاوض حول شروطه ، هو لا يطرح مشروعاً انتقامياً ، بل مشروع عدالة يستند إلى مبدأ أن من دفعوا الثمن الأكبر ، من دمهم وعرقهم وتهميشهم ، يجب أن يكونوا شركاء لا خدماً، الدولة بالنسبة له ليست جهازاً بيروقراطياً فقط ، بل أداة لتحرير الإنسان من الفقر ، والاحتقار ، واللاجدوى إنه ينقل الدولة من مفهوم الغلبة إلى منطق الخدمة ، ومن سلطة الصفوة إلى تمثيل الأغلبية التي لم يُسمع لها صوت.

في لحظة يُخيم فيها الخوف والخذلان على عامة السودانيين ، جاء حميدتي كصوت مألوف ، لا يتكلم لغة خشبية ولا يلبس وجوهاً متعددة ، بداً للكثيرين أقرب إلى الحقيقة من رجال السياسة المتخمين بالوعود والمناورات ، هذه العلاقة الشعورية بين القائد والشعب لا تُصنع في قاعات المؤتمرات ، بل تتكون في معسكرات النزوح ، ومواكب العزاء ، ووجوه الأمهات ، حيث يصبح القائد صورة لأمل شعب ، لا واجهة لمؤسسة، هو ليس نتيجة لصناعة سياسية ، بل نتاج لتجربة حياتية مكتظة بالخسارات ، والنهوض ، والإصرار على الخروج من الظل.

ما يقوم به حميدتي هو زلزلة لبنية الحُكم لا بمنطق العداء ، بل بمنطق التأسيس الجديد ، إنه يقول دون ضجيج ، إن من عاش التهميش أقدر على صياغة الإنصاف ، وإن من نُفي من الجغرافيا يملك أخيراً أن يعيد كتابتها ، وهو في ذلك يُعيد تعريف السياسة لا بوصفها صراع نخبة على السلطة ، بل كأداة استرداد وجودي لشعب كامل أُقصي لعقود ، وجوده في موقع الرئاسة هو بمثابة علامة تحول أنطولوجي من الدولة بوصفها سلطة على الشعب، إلى الدولة ككيان منبثق من الشعب.

إن المرحلة التي يمثلها حميدتي ليست مجرد انتقال من نظام لآخر ، بل هي فرصة لتأسيس جمهورية سودانية ثانية ، تختلف عن الأولى في كل شيء في موقع الإنسان فيها ، في كيفية توزيع السلطة ، في اللغة التي نخاطب بها أنفسنا والعالم ، جمهورية تتسع للهويات المهملة ، وتبني سياستها على التكافؤ لا التسلط ، على التمثيل لا الاحتكار ، وعلى الكرامة لا الولاء ، وإذا أُحسن توجيه هذه اللحظة ، فقد تكون البداية الحقيقية لميلاد وطن جديد ، تُصاغ فيه الدولة كبيت مشترك ، لا كمكتب مغلق.

التاريخ السوداني لم يعرف من قبل رئيساً أتى من خارج المركز ، بلا دعم صفوي ، بلا عمق أكاديمي تقليدي ، بلا عمامة موغلة في الطقوس ، لكنه عرف الآن رئيساً أتى من التجربة ، من المحنة ، من خريطة الألم ، وفي ذلك تكمن فرادته هو لا يُمثل الماضي ، بل يُجسد القطيعة معه ، وهو لا يطلب الشرعية من دفاتر الوزارات ، بل من الوجوه المنسية التي رأت فيه ما لم تره في غيره ، رجل من صُلب المعاناة ، يتحدث بلسان لا يُتقنه السياسيون ، لكنه يُفهم في أعماق الناس لأنه من جنسهم.

إن حميدتي كحدث فلسفي في التاريخ السوداني يُجبرنا على مراجعة ما نظنه طبيعياً في شكل الدولة ، في آلية الحكم ، في حق القيادة ، فهو لا يُمثل الاستثناء ، بل يُبشر بتحول في القاعدة أن يكون السوداني الذي لم يُسمع له صوت ، هو من يُدون المرحلة الجديدة ، ومن هنا فإن مشروعه ، بما فيه من طموح وعدالة ، ليس انتصاراً لنفسه ، بل وعد لغيره أن المركز لم يعد أبداً المكان الوحيد الممكن للقرار.

في رئاسته تنكسر المركزية وتُكسر الأصنام التي حكمت السودان منذ الاستقلال وهذه هي اللحظة الفلسفية أن تخرج الذات المنفية من الظل ، لتُعلن حضورها في صدارة المشهد ، لا كمجرد رقم أو بند في خطاب ، بل كفاعل تاريخي كامل ، يعيد رسم الوطن بالمعاناة لا بالورق ، ويكتب التاريخ بلسان الذين لطالما طُلب منهم الصمت

إرسال التعليق

لقد فاتك