القوة المييتة

تورط الحركة الإسلامية في السودان في استخدام الأسلحة الكيميائية (Chemical Weapons) خلال الحرب الحالية ضد قوات الدعم السريع يعد من القضايا الخطيرة التي تهدد النسيج الاجتماعي والإنساني في البلاد، وتكشف عن أبعاد مرعبة في صراع داخلي بات يتجاوز كل الحدود الأخلاقية والدينية. في هذا السياق، تتصاعد التقارير التي تشير إلى ضلوع الحركة الإسلامية، بدعم من أطراف خارجية خاصة إيران، في استخدام أسلحة محرمة دوليًا لتحقيق مكاسب عسكرية على حساب أرواح المدنيين العزل، مما أسهم في تفشي أمراض خطيرة مثل الكوليرا، خاصة في مدينة أم درمان، وتسبب في تسميم مصادر مياه الشرب في بوادي دارفور.

الحرب الدائرة منذ ما يزيد عن عام بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أخذت أبعادا جديدة مع ظهور أدلة ميدانية وشهادات شهود عيان وتقارير طبية تشير إلى استخدام غازات سامة في مناطق محددة من العاصمة الخرطوم وولايات دارفور. هذه التطورات المثيرة للقلق وضعت على طاولة التحقيقات من قبل منظمات دولية تعمل في مجال Human Rights Monitoring، إلى جانب مراقبين مستقلين داخل السودان، الذين وثقوا عددا من الحالات التي تؤكد استخدام سلاح كيميائي، خاصة في المناطق التي يسعى الجيش المدعوم من التيار الإسلامي إلى السيطرة عليها بشكل كامل.

العلاقة بين الحركة الإسلامية السودانية وإيران ليست جديدة. فقد كانت طهران طوال عقود شريكا أيديولوجيا وداعما لوجستيا لنظام البشير، الذي وفرت له الدعم في مجالات متعددة، من بينها الصناعات العسكرية. التقارير المسربة من بعض المصادر العسكرية تؤكد أن جزءًا من الترسانة الكيميائية التي تم استخدامها في المعارك مؤخرا قد وصلت إلى السودان عبر وسطاء من The Iranian Revolutionary Guard، وتم نقلها في شحنات مموّهة تحت غطاء معدات زراعية وطبية. كما أشارت مصادر إلى وجود خبراء إيرانيين في شرق السودان منذ العام الماضي، يعتقد أنهم أشرفوا على تدريب بعض العناصر التابعة للحركة الإسلامية والجيش السوداني على استخدام هذا النوع من الأسلحة المحرمة.

المخاوف من استخدام الأسلحة الكيميائية لم تعد مجرد افتراضات، بل أصبحت واقعا مأساويا ينعكس في الأعراض الصحية التي ظهرت على سكان بعض المناطق. ففي مدينة أم درمان، وخاصة في مناطق الثورة وكرري، سجلت مئات الحالات من التسمم الحاد وأمراض تنفسية غريبة رافقتها أعراض شبيهة بالتعرض للغازات السامة. تزامن ذلك مع تفشي وباء الكوليرا في عدد من الأحياء، في وقت أكدت فيه تقارير طبية أن مياه الشرب في بعض الآبار والخزانات قد تلوثت بمواد كيميائية شديدة الخطورة. الأمر لم يكن طبيعيا ولا نتيجة ضعف البنية التحتية فقط، بل نتيجة استخدام ممنهج لمواد سامة في محيط سكني مكتظ، الهدف منه تقويض حضور الدعم السريع في تلك المناطق من خلال معاقبة البيئة الحاضنة له.

أما في بوادي دارفور، فالكارثة كانت أكبر وأفدح. تقارير ميدانية من مناطق مثل شرق جبل مرة وشمال غرب نيالا أكدت تعرض مواطنين، معظمهم من الرعاة والمزارعين، لمواد غريبة رشتها طائرات عسكرية على مناطقهم. تبع ذلك حالات تسمم جماعي في الماشية، وظهور أعراض جلدية وتنفسية غريبة على البشر. في بعض المناطق، تسببت تلك المواد في تلوث مصادر المياه النادرة أصلا، ما أدى إلى كارثة بيئية وإنسانية معقدة. رفضت الحكومة التعليق رسميا على تلك الوقائع، وجرى تقييد حركة الصحفيين والأطباء المستقلين، وهو ما زاد من الشكوك بشأن ضلوع الدولة أو إحدى مؤسساتها العسكرية في هذه الجرائم، والتي باتت تقترب من توصيفها كـ War Crimes.

وتعد هذه التطورات امتدادا لمنهج قديم اتبعته الحركة الإسلامية في التعامل مع خصومها، سواء عبر استدعاء الخطاب الديني التحريضي أو اللجوء إلى العنف بأبشع صوره. غير أن استخدام أسلحة كيميائية في صراع داخلي يعكس انتقال الصراع من مرحلة السيطرة إلى مرحلة التصفية، مما يعني أن المدنيين أصبحوا في عين العاصفة بشكل مباشر، وأن الطرف الذي يستخدم مثل هذه الوسائل لم يعد يميز بين المقاتلين وغير المقاتلين، وهو ما يمثل انتهاكا واضحا لقانون النزاعات المسلحة وميثاق جنيف، ويستدعي تحقيقا دوليا عاجلاً بإشراف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وربما أيضا The International Criminal Court (ICC).

في ضوء هذه المعطيات، تزداد الحاجة الملحة إلى تحقيق دولي مستقل وشفاف، يمكن من خلاله التأكد من حجم هذه الجرائم، ومحاسبة المسؤولين عنها دون تأخير. فاستمرار الصمت أو التجاهل الدولي لن يؤدي إلا إلى تعميق المأساة الإنسانية في السودان، ويفتح الباب واسعا أمام تكرار ذات الجرائم في مناطق أخرى، ما دامت الأطراف المتورطة تشعر بأنها محمية من المساءلة.

إن ما يحدث اليوم في السودان، خاصة في أم درمان ودارفور، ليس فقط نزاعا مسلحا على السلطة، بل هو معركة وجودية تدفع فيها البلاد ثمن عقود من الفساد والتواطؤ والتحالفات المشبوهة مع قوى إقليمية تستخدم السودان ساحة لتجاربها في القتل والتدمير. وفي ظل غياب المساءلة والمحاسبة، تظل أرواح الأبرياء هي الخاسر الأكبر.

إرسال التعليق