احمد السميح يكتب : في خطاب دوائر السلطة ما بين “دولة الزغاوة الكبرى” و”دولة العطاوة الكبرى”
الواعي يدرك تمامًا طبيعة هذا الخطاب، ويعلم يقينًا مصدره. ولا أظن أن الأمر يخفى على أحد: لماذا أُعيد تدوير هذا الخطاب في هذا التوقيت بالذات؟
هذا النوع من الخطابات لا يُنتج نفسه من فراغ، بل يُعاد تدويره في توقيتات محسوبة، وله أهداف محددة.
وحده الوعي السياسي والاجتماعي هو القادر على تمييز طبيعة هذا الخطاب وفهم مصدره الحقيقي.
وعند تفكيك هذا النمط من الخطاب، لا بد من العودة إلى النماذج التاريخية التي شابهته في أدواتها وغاياتها.
فأسترجع في ذاكرتي مشاهد الحرب العالمية الأولى، وأقلب دفاتر التاريخ على صفحات النازية، لأتأمل في شخصيتها بوصفها مثالًا كلاسيكيًا لاستخدام الخطاب الجماهيري كوسيلة لتعبئة الشعوب، وتوجيه الرأي العام نحو عدو مُختلق.
لا أحد ينسى بول جوزف غوبلز، وزير الدعاية في الرايخ الثالث.
غوبلز لم يكن مجرد وزير، بل كان مهندسًا نفسيًا، أدرك كيف تُصنع الكراهية وكيف تُعبّأ الجماهير. فكانت مقولته الأشهر: “اكذب، اكذب، حتى يصدقك الناس.”
كان غوبلز خطيبًا بالفطرة، موهوبًا في التأثير على الجماهير، وذا قدرة خطابية خارقة، حتى أصبح أحد أعمدة القوة النازية الإعلامية.
اشتهر بعدائه الواضح لليهود، وكان بمثابة الدينامو المحرّك لماكينة النازيين؛ صوته الجهوري وكلماته النارية كانت تلهب مشاعر الجماهير، وتؤسس لبروباغندا لها وقعها وأثرها الممتد.
صنع عدوًا وهميًا (اليهود)، واستخدمه كرافعة لتحشيد النازيين وإضفاء طابع وجودي على معركتهم.
وهو ذات المنطق الذي يُستعار اليوم — بلا وعي — في الساحة السودانية، حيث يتبارى بعض السياسيين والناشطين في إطلاق خطابات تعبوية من ذات النوع: تعميم، شيطنة، وتحشيد على أساس عرقي أو إثني.
واليوم، حين أنظر إلى المشهد السياسي السوداني، أرى كثيرين يشبهون غوبلز.
لكن الفرق أن البرهان لم يعيّنهم رسميًا، كحال غوبلز مع هتلر، بل يظهرون من تلقاء أنفسهم، محاولين عبر خطابات مشابهة أن يتقربوا من دوائر النفوذ ومراكز السلطة.
ويتنافسون بتصريحاتهم، ويتبارون في ضخ خطاب تعبوي يستهدف تفتيت النسيج الاجتماعي، وتحريك المجتمعات ضد بعضها البعض.
تارة يُستَخدم مصطلح “عرب الشتات”، وتارة أخرى يُرمى الآخرون بصفات “الأوباش”، و”المرتزقة”، و”الأجانب”، ويُعاد تدوير عبارات مثل “دولة جنيد” و”دولة عرب الشتات” وغيرها.
وما يجري حاليًا من هذه الخطابات تجاه بعض المجتمعات يحتاج إلى وقفة مراجعة حقيقية، فربما ينقلب السحر على الساحر.
فتلك المجتمعات التي يظنون أنهم يستطيعون تحريضها، قد تكون في حقيقتها أصلب من أن تخوض تجربة التنكيل بالتحريض بها — فماذا إذا انعكس الأمر عليها؟
غير أن ما يلفت النظر في كل هذا، هو أن الوعي العام — على ما يبدو — بات في حالة تجاوز لهذه الخطابات، فلم تعد تجد صدى واسعًا كما كانت من قبل، وهذا مؤشر إيجابي على صعود مناعة مجتمعية ضد أدوات التحشيد والتأليب.
ومن هنا، يمكن فهم سبب استمرار بعض أبناء السلطة والنظام في ترديد أسطوانة “دولة الزغاوة” و”دولة جنيد”، في محاولة دؤوبة لخلق صراع داخلي بين المكونات الاجتماعية.
وهذا الصراع المُختلق ليس مجرد خطاب؛ بل هو الفعل الأساسي، والمحرك الأقوى، والأداة الأخطر التي تُستثمر في ديناميكية هذه الحرب



إرسال التعليق